في معرض الرد على اتهامات لقيادة جهاز الأمن العام بالمحاباة الجهوية في التعيينات القيادية، انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي والإعلامي قائمة تفند هذه المزاعم وتشير بالاسم لمواقع قيادية في الجهاز يتولاها ضباط كبار من محافظات شمال وجنوب المملكة.
لا اعتقد أن قيادة الأمن العام هي المسؤولة عن القائمة الثانية، لكن الحالة برمتها تؤشر على أزمة عميقة على المستويين الرسمي والأهلي.
من ناحية أولى، أجد في نشر قوائم تفصيلية بأسماء ضباط كبار ورتبهم العسكرية والمواقع التي يشغلونها، تعديا على خصوصية جهاز أمني لا يفترض أن تكون أسماء ضباطه ومناصبهم متاحة على صفحات التواصل الاجتماعي على هذا النحو. من الأساس التغييرات الداخلية والتنقلات والترفيعات في الأجهزة الأمنية ينبغي أن تبقى سرية قدر الإمكان، لأننا بهذا القدر من الشفافية المفرطة نوفر معلومات أمنية يمكن أن يستفيد منها مجرمون ومطلوبون للأمن، أو جهات خارجية.
لكن الأخطر من ذلك، انتقال عدوى الجهوية والمناطقية إلى أجهزة الدولة السيادية ومؤسساتها الحساسة. نعلم أن هذا النوع من المحاصصات ليس جديدا على مؤسسات الدولة الأردنية، لكنه بات يطفو على السطح، في مؤشر على تراجع قيم الدولة الوطنية لحساب الهويات الفرعية.
كان حلم المؤسسين الأوائل بقيادة الهاشميين بناء نواة لدولة عربية متحدة تكون شرق الأردن منطلقا لها. ومن يراجع تركيبة الحكومات الأولى في عهد التأسيس سيلحظ أن أغلبيتها من الزعامات العربية التي دعمت الثورة العربية الكبرى وقاتلت من أجل استقلال العرب.
القوى الاستعمارية الغربية اغتالت حلم الهاشميين والعرب، لكن الدولة التي تأسست في شرق الأردن ظلت أمينة على قيمها العروبية. ومع تطور الكيان السياسي للمملكة أصبحت الدولة الوطنية الأردنية هى المكسب والمنجز بعد فشل كل محاولات الوحدة العربية بمختلف مستوياتها.
مفاهيم الدولة الوطنية هى التي شكلت هوية الأردن، ودمجت مكوناته كافة في كيان سياسي واحد. النظام السياسي بمؤسساته كان النموذج لحالة الانصهار الوطني. ولم يكن لأحد ان يفكر بالسؤال عن هوية أو منطقة المحافظ الجديد في محافظته أو مدير الشرطة. حتى تشكيلة الحكومات لم تكن تخضع لهذا القدر من المحاصصة، رغم الإقرار بوجودها لضمان تمثيل جميع المكونات.
كنا أقل حساسية تجاه الهويات الفرعية والانتماءات الجغرافية، لأن الشعور بالهوية الوطنية الجامعة كان يطغى على كل الهويات.
ماذا يعني أن يكون أغلبية قادة مؤسسة رسمية من السلط أو الكرك أو عمان؟ ما يعنينا هو الأداء والعمل بإخلاص ليس إلا. ينبغي أن نستعيد هذه الروح، ونكف عن الشكوى والتذمر من عدم تمثيل أنباء هذه المنطقة أو تلك. لكن قبل ذلك، على القائمين على قيادة المؤسسات أن يتصرفوا بإخلاص لقيم الدولة، ويكون معيارهم في الترقية والتعيين الكفاءة والجدارة.
لقد أسرفنا في السنوات الأخيرة بممارسة سياسة الترضيات لكسب الدعم، فصارت التعيينات والخدمات توزع وفق الطلبات لا الحاجات، ودون اعتبارات الجدارة، لإرضاء نواب أو متنفذين. وقد أغرى هذا الأسلوب أوساطا اجتماعية للمطالبة بحصتها في كل مؤسسة وكأن الوظائف والمسؤوليات مجرد مكافآت يجري توزيعها كعطايا ومنح.
الغد