في المقال السابق "ما لم أقله أمام الملك" ذهبت التفسيرات والتأويلات الأردنية نحو انجرافات التأويل الذي يذهب إلى أن ما كتبته هو ما قاله الملك عبدالله الثاني نفسه في اللقاء الذي حضرته شخصيا في عمان الأسبوع الماضي.
لست معنيا بتلك الانجرافات في التأويل، هي مشكلة المتفذلكين من مدمني النبش العبثي لتطويع كل الأفكار إلى ما يؤمنون هم به، وتلك مشكلة عامة وعمومية في ثقافة الحوار العربي، والذي ينتهي بأسوأ حالاته إلى "حوار طرشان" بصوت مرتفع ـ و"الطرش" هنا ذهني وعقلي وليس سمعي.
الإصلاح السياسي في الأردن، بات يتطلب رحلة طويلة من إعادة تأهيل الوعي وتحريره
الملك باختصار لم يقل بالفدرالية ولا بأي توجه نحو ما ذهبت أنا إليه من وحدة كاملة متكاملة بين الضفتين.
العقل السياسي الأردني بالمجمل يفكر بطريقة مختلفة، ولديه حساسية عالية في المسألة الفلسطينية، كما لديه حسابات سياسية متشعبة ومتقاطعة وفي أحيان كثيرة متضاربة، تجعل حلوله متوسطة المدى، للخروج من أزمات أغلبها ضمن الإقليم، مع يقين كامن في هذا العقل السياسي للدولة بأنه بحاجة إلى رؤية استراتيجية طويلة المدى ونهائية للمسألة الفلسطينية التي هي جزء من تكوينه الشرعي والوجودي.
هذا توضيح ضروري وجدته حاضرا بقوة عندي كمقدمة تنتهي هنا، مع رغبة بالعودة إلى الموضوع في مقالات قادمة.
ما قلته أمام الملك، بالأحرى مما قلته أمام الملك كان حول تصوري الشخصي في عملية الإصلاح السياسي التي وصلت إلى مراحل فانتازية مذهلة في الأردن، فانتازيا هائلة تعبئ الفراغ الذي يشكل الفجوة الواسعة بين الرؤية الملكية المعبر عنها في الأوراق النقاشية، والواقع المتشابك بالتناقضات وكثير التعقيد في المشهد السياسي والاجتماعي الأردني.
(الأوراق النقاشية الجادة نظريا بالإصلاح والمتخمة بالوعي تحولت تحت وطأة الواقع السياسي البائس في الأردن، إلى سلم تسلق لوزير سابق مثلا، ألف عن الأوراق النقاشية كتابا أقام له حفلا راقصا حضره رئيس الوزراء ونخب الحكم في الدولة.. تلك مفارقة مهينة للأوراق وغير لائقة بكاتبها).
ومما قلته، إن السعي المتسارع نحو تشريع قانوني انتخاب وأحزاب مهما كانا بالغا الحداثة والعصرية لن يخلق حياة حزبية في الواقع السياسي الأردني.
ما قلته أمام الملك إن الوعي الاجتماعي والسياسي في الأردن، هو وعي ممسوخ ومزور ومشوه، وقد تمت عملية ممنهجة لتزوير وتشويه ومسخ هذا الوعي الجمعي طوال سنوات مضت؛ إلى درجة أن الدولة "بمفهومها الشعبي" لم تعد بحاجة إلى مهارات الأجهزة الأمنية لتزوير الانتخابات البرلمانية، فالوعي المزور والمشوه والممسوخ قادر لوحده وبدون جهد أن ينتج مجالس بائسة مثل الموجودة حاليا تعكس الوعي الممسوخ نفسه.
ما قلته أمام الملك، وبوضوح وقد استمع إليّ كما لمست باهتمام، إن عملية السعي المكرر لتشريع قانوني انتخاب وأحزاب أملا بخلق حياة حزبية ديمقراطية وحكومات برلمانية مكتملة الأركان يشبه تماما عملية زرع شتلة أمازونية في صحراء الربع الخالي، فإما أن يتحول الربع الخالي إلى أمازون أو أن تموت الشتلة؛ وأنهيت كلامي للملك بأن الأردن منذ أكثر من عشرين سنة، يزرع الشتلة لتموت، لكن التصحر يمتد ويتسع.
السعي المتسارع نحو تشريع قانوني انتخاب وأحزاب مهما كانا بالغا الحداثة والعصرية لن يخلق حياة حزبية في الواقع السياسي الأردني
مما قلته أمام الملك وكانت تعابير وجهه توافقني في هذه النقطة تحديدا، من أن الإصلاح السياسي في الأردن، بات يتطلب مع كل هذه القتامة في المشهد، رحلة طويلة من إعادة تأهيل الوعي وتحريره بدءا من منظومة التربية والتعليم وليس انتهاء بباقي منظومات الدولة والمجتمع.
محاربة الفساد الذي أصبح مؤسسة بحد ذاتها، ضرورة ملحة في فتح الطريق، لكن الطريق لا بد أن يكون باتجاه إعادة تأهيل الوعي بعد كل هذا التشويه الذي تعرض له.
رأس الدولة الأردنية، الملك، استمع وتفاعل باهتمام ملحوظ لي ولمداخلات أكثر شدة وربما قسوة في الطرح من زملاء حاضرين، وأعتقد أن الحوار كان مهما لأنه حوار خارج الصندوق المعتاد في اللقاءات الملكية، والملك لم يمانع رغم مداخلات مدير مكتبه المتكررة، أن يدخل في جدل مع الموجودين، جدل جاد وحوار فيه اختلافات وتوافقات ومراجعات مهمة.
اللقاء والحوار مهم، لكنه ليس غاية نهائية، فالأهم أن يكون الحوار المفضي إلى نتائج هو الغاية، وهذا يتطلب توسعة مساحات الحوار بلا خوف ولا شكوك ولا تردد، كما يتطلب شفافية أكثر تتجاوز ضيق أفق الخبر الرسمي المنشور في الصحف الرسمية، فما تحدثنا به في تلك القاعة الملكية المغلقة، يستحق كثير منه النشر وطرحه للنقاش العام.
عن الحرة.