اذا اردنا ارجاع الأمور الى اصولھا یمكن القول ان الطبیعة والحیاة تنتج التعددیة وتدعمھا، والانسان ینقلب علیھا ویقمعھا.
ھناك مكون اساسي واحد للمادة والطاقة لكن ینشأ عنھ تعدد لا متناه من اشكال الوجود والصفات. عدد معین من أنواع الذرات (العناصر) ثم عدد لا متناه من الجزیئات والمركبات والمواد والأجسام. والفرع الحیوي من المادة (المركبات العضویة) لھ أیضا اساس واحد لكنھ توسع وتعقد الى اشكال متعددة من الحیاة البدائیة تنوعت وتعقدت وتفرعت الى أنواع وصولا الى الانسان. الكائنات الحیّة تعیش مع بعضھا وعلى بعضھا، تتصارع وتتكامل تغذي بعضھا وتتغذى على بعضھا وقد یبید بعضھا البعض الآخر.
وبالمناسبة قبل ملایین السنین لم یظھر انسان واحد بل عدة تنویعات من ھذا الفرع المتقدم منتصب القامة یستخدم الأدوات، انسان نیاندرتال وانسان جاوا وعدد آخر من انواع انقرضتّ وكشفتھا الحفریات في مناطق مختلفة. ومن بینھا جدنا الأول. كان أقل ضخامة وقوة من بعض اقرانھ عوضھا بقشرة دماغ أكبر قلیلا، وحسب التقدیرات خرج من اثیوبیا الى الشرق الأوسط فقط قبل 50 الف عام ثم توسع شرقا وغربا مبیدا الجماعات المختلفة عنھ وحسب التقدیرات البحثیة فقد اختفى آخر فرد من إنسان النیاندرتال فقط قبل 25 الف عام تقریبا لكنھ ترك أثرا في جینات البشر في أوراسیا بنسبة تراوح بین 2 % الى 6 % ربما جاءت نتیجة التزاوج مع السبایا من نساء النیاندرتال.
الانسان العاقل ینزع الى التنمیط والغاء المختلف والآخر قدر ما یستطیع لكنھ كلما ساد وتفرد أنتج تعددا والبشریة أنتجت اجناسا وسلالات، وقد رمزت لھا الروایة التوراتیة بأبناء نوح سام وحام ویافث الذین سكنوا قارات العالم القدیم آسیا وافریقیا وأوروبا. لكن الحقیقة أن سلالات في اقصى الشرق وصلت بطریقة ما الى استرالیا والأمیركتین وعاشت في حضارة منعزلة لعشرة آلاف عام قبل ان تنكبھم بالابادة اكتشافات الأوروبیین لـ ”العالم الجدید“.
نحن نعرف تاریخ الشعوب وصراعھا وحضاراتھا التي سادت ثم بادت من بدء الكتابة وقبل ذلك بقلیل بنشوء مجتمعات زراعیة مستقرة على أحواض الأنھر لكن قبل عشرة آلاف سنة لا شيء سوى بقایا غامضة مثل مستحاثات وأدوات ورسومات على جدران كھوف. من المؤكد ان صدامات واجتیاحات وابادات توالت وقضت على مجتمعات وثقافات وربما لغات وتصورات ومعتقدات لم یصلنا عنھا ومنھا شيء، وھو أمر نتأسى لھ الآن، وتحرص الیونسكو الیوم على برامج حمایة وإنعاش لإرث وثقافة ولغات ولھجات قید الانقراض.
الآن اتصل العالم وتسوده حضارة واحدة تعیش في داخلھا تعددیة في الھویات والثقافات والانتماءات الدینیة والقومیة والاثنیة والفكریة ولا احد یرغب أو یقبل بشطب خصوصیتھ وثقافتھ الوطنیة. والدول الحدیثة نشأت عبر مخاضات عسیرة واحیانا دمویة على خلفیة قومیة واثنیة ودینیة الى جانب مصالح طبقیة وفئویة لكنھا استقرت على مبدأ المواطنة وسیادة القانون، وقد یكون التكوین الاجتماعي للدول متعددا قومیا ودینیا ولغویا أو واحدا لكن الأخیر سیتعدد على كل حال في البیئات والأفكار والمصالح.
منطق الحداثة انتصر منذ وقت طویل وھو یسود في الخطاب العام على المستوى الكوني أو المحلي لكن من الواضح ان فشلا في التنمیة الاجتماعیة والاقتصادیة وبناء النظم الدیمقراطیة فتح الباب لارتدادات عاصفة تعاكس التاریخ والتطور الانساني كما ھو الحال في منطقتنا مع الجماعات المتطرفة والجھادیة وھي ومحیطھا الفكري القریب من عبث التاریخ تصنع أذى وخسائر فادحة وآلاما دون أي أمل أو مستقبل لھا.
“ مقدمة لمحاضرة عن التعددیة الثقافیة قبل یومین ”
الغد