أخطر ما وصل اليه الاردنيون في هذه المرحلة الملبدة بغيوم الشك هو فقدان الثقة بكل شيء، يكفي فقط ان ندقق في البيانات التي تصدر من هنا وهناك، او بالتعليقات الجادة والاخرى الساخرة التي تفيض بها وسائل التواصل الاعلامي، او بالابداعات الجديدة للاحتجاج على «الحال» الذي وصلنا اليه، يكفي كل هذا وغيره لنفهم باننا امام واقع صعب لا بد ان نتداركه بكل ما لدينا من حكمة وشجاعة واقتدار.
يحتاج المسؤول قبل ان يصدر مقرراته الى طلب « تقرير حالة « عن مجتمعنا، سواء في المجال السياسي او الاقتصادي او الاجتماعي، لكي يعرف - تماما - ما يجري من مخاضات، وما يعتمل داخله من حراكات صامتة، وما يدور على تخومه من صراعات ومحاولات للتمرد والرفض والغضب، فما نراه على السطح أحيانا قد يكون مغشوشا أو غير دقيق على أضعف الإيمان.
خذ مثلا، واقعة «عرض البنزين» الذي قدمته احدى محطات الوقود، ودقق في مسألة واحدة (على كثرة ما تداوله الجمهور من تحليلات وتعليقات) ، ستجد ان المخيلة الشعبية تحركت الى فهم ما جرى في اطار «جس» نبض المجتمع لما سوف يقع في الايام القادمة، فالجزرة التي تم عرضها بمبلغ لا يتجاوز 5 دنانير كانت ( كما سمعته من كثيرين) مجرد بروفة لمعرفة قابلية المجتمع للقبول باي عرض او استحقاق سياسي قادم مقابل تحسين اوضاعه الاقتصادية، تصور كيف استقبل مخيالنا الشعبي هذه المسألة البسيطة، وتصور ايضا على الجهة الاخرى ما فعلناه بانفسنا، سواء حين تحركنا بدافع الاحساس بالفقر لنقف في الطوابير امام محطات الوقود لانتزاع خمسة دنانير فقط ، او حين تحولنا الى محللين وناقدين نشك في كل شي، و نتخوف من اي شيء.
ما شهدناه في واقعة البنزين، وفي وقائع عديدة مر بها مجتمعنا في الايام المنصرقة ( اخرها رحلة الدكتور العريني من الطفيلة احتجاجا على غياب العدالة ) يجسد حالة «التعب» التي انتهى اليها مجتمعنا وانعكست بشكل واضح على مزاجنا العام، فنحن تائهون ومضطربون وقلقون وخائفون، مقررات الرسمي تعكس هواجس «الشارع»، وصرخات الناس تتجسد عمليا في «قلق « الرسمي، صراعات النخب على الكعكة بين الوضع القائم و الاخر القادم او بين المحافظ والليبرالي، تكشف لنا ما يشغل هؤلاء على حسابنا، وجولات العنف و «التهريج» التي امتدت من قبة النواب الى ارصفة البيوت ثم تغلغلت في الجامعات والطرقات ايضا، تحذرنا من وصول قطار «نفاد» الصبر الى سكته.. اذا لم نسارع بدفع عجلات قطار الاصلاح نحو الامام.
لو سألتني عن كلمة تصلح كعنوان للحالة التي نعيشها في هذه الايام لقلت : «الارتباك»، جميعنا نشعر بالخوف والشك والارتباك، نقدم رجلا ونؤخر اخرى، نلهث خلف حقائق ثم نكتشف بانها مجرد «اوهام»، نحاول ان نمسك بطرف الخيط ثم نبحث عن الخيط فلا نجد له اثرا وسرعان ما يتبدد الأمل ونصحو على مزيد من الخيبات.
يا سادة اسمحوا لنا ان نصارحكم ، الاردنيون يستحقون افضل مما قدم لهم، فمن حقهم ان يستريحوا بعد هذا التعب الطويل وان يطمئنوا الى وطن استعاد عافيته واصلاح يمشي على قدمين، الى محاكمات عادلة لحيتان الفساد ومراجعات شاملة لمرحلة طويلة من الخراب، ومقررات حازمة تفضي الى مرحلة تنقل مجتمعنا من اليأس والاحباط والمجهول واختلاط التصورات والاجندات وفوضى الشعارات والتصريحات والارتباك ، الى مرحلة عنوانها اليقين السياسي والعدالة الاجتماعية والمصالحة المرتبطة بالمحاسبة وتصفير الازمات والاحتكام لصناديق الانتخاب، تماما كما فعل غيرنا حين انحاز الى التغيير من داخل الصناديق ومن بوابات العدالة ومن رحم اشواق الناس للحرية والكرامة.
الدستور