فضیحة الخبز التي تدفقت عبر بث تلفزیون المملكة، لیست الأولى ولا الأخیرة، اذ قبل القمح المسموم، كانت السجائر المغشوشة، وفضیحة الغذاء والدواء المغشوشین، والبنزین المغشوش، وبین كل ھذا وذاك، سلسلة طویلة من الكوارث في البلد.
عن أي روح معنویة نتحدث ھنا، وعن أي ثقة یمكن وضعھا في أي حكومة، ومن نحاسب ومن نترك في ھذا البلد، ھذا فوق قصص الفساد الثابتة وغیر الثابتة التي تقدر بالملیارات، فوق قصص دیوان المحاسبة والمخالفات، وغیاب المعاییر في التعیینات، وتفشي الرشوة، والفقر، والبطالة، وغیاب العدالة، وكل أنواع الفساد التي تتمدد دون أي محاولة لوقفھا او التخفیف منھا؟!
من ھو السبب الأساس في ذلك، حین نرى وطنا عظیما، یتم تفكیكھ بالتدریج، ولو كان وطنا خربا، لفھمنا ان المزید من الخراب، لن یضره بشيء، لكنھ كان مضرب المثل في كل شيء، فتم تركھ مثل ھرم كبیر، لتتساقط حجارتھ، الحجر تلو الآخر؟
لا یستحق الأردنیون ھذا الواقع، فھم لم یقعوا في خطایا قومیة، ولم یخونوا، وكانت شخصیتھم الاجتماعیة عصیة على التحطیم، وبقیت معتدة بكل إرثھا وتاریخھا، شخصیة طیبة وكریمة فیھا كل صفات الخیر ونصرة المظلوم والأخ والشقیق والجار، شخصیة لم تحمل في عنقھا اثم غیرھا، ولم تتورط في الصغائر، ولا الكبائر، ولا ورطت غیرھا لتدفع الثمن الیوم.
أین كانت كل مؤسسات الدولة كل ھذه السنین عن ھذه التراجعات، وماذا كانوا یفعلون، وكل شيء یتراجع بالتدریج، حتى القطاعات التي كنا نعتبرھا الأولى عربیا، تم تركھا لتتراجع، وتفقد مزایاھا التنافسیة، التعلیم والصحة والسیاحة، وغیرھا من قطاعات!
لم یعد كافیا الیوم، اتھام ھذه الحكومة او تلك، لأن كل ھذه التراجعات بحاجة إلى وقفة مختلفة، فنحن نتفرج على بلد یظلنا جمیعا، لھ في عنق كل واحد فضل، نتفرج علیھ، ونوزع التھم على بعضنا البعض، ونعتبر ان إلصاق التھمة بفلان او علان یكفي لتبریر كل ھذا الخراب، ونتعامى عن عمومیة المشھد، وھذا النخر الكبیر المستمر في جسم البلد بأكملھ.
رغیف الخبز غدا مسموما، والدواء من الصنف الثاني، والبنزین یدمر السیارة، والدجاج یعاني من اختلال الھرمونات، ویسبب الأمراض والسكري، والسیجارة فوق أضرارھا المعروفة، یتم تحویلھا إلى أداة للشروع بالقتل بسبب خلطاتھا القاتلة، والخضار والفواكھ یتم ردھا من العرب بسبب السمیات فیھا!
عن أي خطط وتطلعات وبرامج وحكومات وبرلمانات نتحدث، وھذه الفضائح التي تتكشف یوما بعد یوم، تكشف أن ھناك عالما سریا في الأردن، لا یعرف اغلبنا اسراره وتفاصیلھ، ھذا فوق المخفي والمستور، الذي لم تتفجر حكایاتھ، ولم تصلنا شظایاه، حتى یومنا ھذا؟
لقد آن الأوان ان نعترف ان البلد بحاجة إلى انقاذ بغیر الطریقة السائدة حالیا من بیع الأوھام، اذ ما نفع كل ھذا والأردني لا یجد قوت یومھ، فیصطف الآلاف لتوفیر خمسة دنانیر في شراء البنزین، وفوق ھذا یتم السخریة منھ وإھانتھ بلاذع الكلام من جانب فلاسفة المعلقین الذین لم یجدوا شیئا لیھینوه سوى ذاتھم الوطنیة؟
ثم یأتونك ویقولون لا تصدقوا الاشاعات، وھم یتناسون ھنا، ان المثبت من الحقائق مثل قضیة الخبز المسموم والسجائر المسمومة وغیرھا من ملفات مثبتة، كفیلة وحدھا بتدمیر الروح المعنویة، فما بالنا بالملفات التي یختلف علیھا كثیرون، ویصدقھا البعض، وینفیھا آخرون؟
یبقى السؤال المحیر حول السر في ترك البلد لیصل إلى ھذه الحالة، إذ لا یعقل ان یكون طبیعیا ان تشب الحرائق في بیتك الصغیر، مثلا، وتتفرج علیھا، باعتبارھا أمرا عادیا، من عمل الانسان او الشیطان، فیما الحرائق الكبرى، یتم التفرج علیھا أیضا، وكأن الأمر لا یخص أحدا في ھذا البلد المبارك الذي یراد لھ أن یموت ونحن نتفرج علیھ.
لقد آن الأوان، أیضا، ان نقف عند عمومیة المشھد، بدلا من سیاسات الترقیع الیومیة، وترحیل المشاكل، وجدولة الاحلام، وسیاسات بیع الوھم، وان نتذكر أن المیقات لم یعد میقات كلام.
الغد