كنا صغارا تدهشنا كل الأشياء؛ شمس الصيف التي كانت رفيقة فرحنا في حاراتنا القديمة، وأوراق الشجر المتساقطة في حدائق بيوتنا المتواضعة، وصوت الرعد ووميض البرق في ليالي الشتاء الخيّرة، وأكثر ما كان يدهشنا دحنون بلادي الذي أخبرونا أنه يزهر من دم الشهداء!
لم نشكك يوما في رواية الآباء، فالدحنون بقي في نفوسنا يزهر من دم الشهداء، والشهداء لا زالوا فينا أبطالا في علّيين. كبرنا على حب الوطن وكبر الوطن فينا، زُرعنا فيه فامتدت جذورنا في روابيه، وبقي الشروق والغروب فيه يحاكي فكرة رومانسية.
كبرنا فجأة عندما بدأت الدهشة تتوارى وحلت مكانها الصدمات، فأصبحت شمس الصيف لهيبا يلفح وجوهنا، واختلط الخريف بكل الفصول، أما الشتاء فاختار أن يكون جافا قاحلا أوقاسيا غاضبا وربما مدمرا. وفجأة تناقص الدحنون ونبتت الأشوك عندما توارت الشهادة وطل الفساد برأسه وتمدد بحجم كل شيء.
في البداية كان الفساد يمارس في الخفاء، وكان عارا لا يجرؤ على الظهور. اما اليوم فهو يعلن عن نفسه بكل فخر، لم لا فالفاسدون يتبخترون مرتدين أفخر الملابس وتفوح رائحة السيجار الكوبي في غرف استقبالهم الضخمة بعدما سرقوا قوت الناس ليجوعوهم ثم يرمون لهم الفتات فيستغلون حاجاتهم ليستعبدوهم.
ضاق بنا الوطن وأصبح يقسو علينا، وفارقت الدهشة وجوه أبنائنا عندما نسينا أن نخبرهم عن دم الشهداء الذي يزهر دحنونا، وغابت قضايانا الكبيرة عندما تراكمت قضايانا الصغيرة، وتهنا عندما ضيعنا بوصلة الأخلاق التي كانت توجهنا نحو الحقيقة، وعندما أصبح للعطاء ثمنا، فاختلطت المعايير وأصبحنا نحتفل بالفاسدين ونتراكض لالتقاط صورة معهم لنستمد منها أهمية ومكانة فقدناهما عندما سدت الطرق بوجوهنا ومنع عنا نور الشمس إذا رفضنا أن نفتح طاقة للفساد.
كل الأشياء في وطني فرغت من معانيها، فلا الجامعات تنتج علما ولا المستشفيات تشفي المرضى وفقدت المؤسسات هيبتها وهاجرت العقول وحفظت الإبداعات في الأدراج فتراكم الغبار فوقها وأصبح ابن فلان كبير القوم حتى لو كان أصغرهم، ولم يعد الإنسان أغلى ما نملك.
آه يا وطني كم أشعر فيك بغربتي، أتغيرت ملامحك فلم أعد أعرفك، أم تغيرت ملامحي فلم تعد تعرفني؟