امين الريحاني"قصتي مع مي"
أمل محي الدين الكردي
12-02-2019 01:25 AM
صفحات قليلة يتألف منها الكتاب، وتضم العشرات من اسماء بعض اهم اعلام الأدب والفكر خلال الثلث الأول من القرن العشرين فهم كلهم هناك، الى جانب مي وجبران خليل جبران، وصاحب الكتاب نفسه امين الريحاني. هناك ذكر للبعض ورسائل من البعض الآخر. شهادة لهؤلاء وعبور سريع لأولئك. كل هذا وصفحات الكتاب قليلة العدد لا تصل الى مئة صفحة
اسم الكتاب سيفترض بأنه قصته مع مي ولكن أمين ريحاني لم تكن له قصة مع مي . كثر كانت لهم قصص مع مي، لكن الريحاني لم يكن واحداً منهم. ومن هنا فإن قصته مع مي، هي بالأحرى قصة مي نفسها. وقصة مي مع المرض والحب والموت. و الإخلاص والغدر. مع الأقارب الذين يتهمهم الريحاني في كتابه بالسيطرةعلى الكاتبة طمعاً في ورثتها . و في القصة هذه هي ، مي زيادة، تلك الأديبة اللبنانية - الفلسطينية التي ظهر شعاعها على الحياة الثقافية العربية ذات زمن فشغلت الناس وملأت الدنيا، لا سيما في القاهرة حيث كان لها معجبوها وصالونها والمعجبون بها. وكان هؤلاء من اكبر ادباء مصر والعرب. لكن اياً منهم لم يظفر من حبه لها بشيء. ذلك ان الأمور كشفت في النهاية عن ان مي، اذا كانت قد احبت احداً حقاً في حياتها، فإن من احبته كان جبران خليل جبران... الوحيد الذي لم تقابله حين كانت واقعة في هواه. والذي يبدو، بحسب بعض الروايات ان حبها اليائس كان واحداً من اسباب ظروفها القاسية ..
- وحكاية مي زيادة حكاية عجيبة غريبة تصلح لأن تحول الى اكثر من فيلم وأكثر من مسلسل تلفزيوني ولكن كان هناك عقبة هي الأهل والورثة، الذين دائماً ما كان رفضهم المبدئي يخفي في طياته تطلعات ربح مادي... غير ان بيت قصيدنا هنا ليس في هذا الموضوع. ما يهمنا هنا هو هذا الكتاب الذي، من غرائب مصيره ان مؤلفه نفسه لم يسمع به ولم يسع الى كتابته ولم ينشره في حياته. اذ من المعروف ان الريحاني كتب مقالات وأورد وثائق ومدونات وشهادات ورسائل تتعلق بحكاية مي، لكنه لم يجمعها ابداً في كتاب، حتى جاء ورثته ليجمعوها تحت ذلك العنوان المثير، لأن الكتاب بدا في نهاية الأمر اشبه بملف صحافي حول حكاية مي، من دون أي تعمق في تحليل ادب هذه المبدعة، او أي تعمق في تحليل شخصيتها وارتباط هذه الشخصية بما آلت إليه حالها.
حال مي هو انها وضعت في آخر سنوات حياتهـــــا، بنـــاء لطلب اهلها، في مستشفى للأمراض العقلية في لبنـــان، إذ قـــام اولـــئك الأهل بخدعة جاؤا بها من مصر، حيث كانت تعيش حالة نفسية صعبة . وكانت المسكينة تعتقد بأن ما يريده الأهل لها، انما هو فترة من الراحة تسترد بعدها عافيتها وتستأنف حياتها الاجتماعية الأدبية. فإذا بها تجد نفسها نزيلة"مستشفى الامراض النفسية "بين المجانين وأشباههم. وسيعجل هذا الواقع الجديد الذي طرأ عليها في حلول نهايتها مع انها كانت لا تزال صبية.
- والحال انه خلال السنوات الأخيرة من حياة مي زيادة كثرت الإشاعة المتحدثة عن علاقة عاطفية بينها وبين امين الريحاني نفسه... وكذلك كثرت الإشاعات ايضاً حول وضع مي، وحول ظروفها ونتائجها، وعن دور مُتصوَّر لأمين الريحاني في ذلك كله. وكان هذا ما استدعى من الريحاني ذلك الرد الذي اتى على شكل ملف لم ينشر على شكل كتاب إلا بعد موت مي بتسعة وثلاثين عاماً، وبعد موت الريحاني بأربعين. ولعل اهم ما في الكتاب هو ان امين الريحاني يمهد له بالعبارات التالية:"قبل ان أبدأ بهذه الصفحة من قصة مي المفجعة، علي ان أعترف بذنبي. فقد كنت مقصراً في واجب الزمالة والحب، بل عن واجب الصداقة المقدس. صدقت ما صدقه جميع الناس. صدقت الإشاعات المحزنة عندما جيء بمي من القاهرة الى بيروت قبل سنة وعشرة اشهر، فأمسكت عن زيارتها، واستطلاع حقيقة حالها. امسكت عن الزيارة وأنا أبرر عملي بما تطور من مزاجي. فإنني في مواصلة العاقلين قليل الرغبة، فكيف بي في مواصلة غير العاقلين؟ ان الروح مصدر الصداقة، وأن العقل مختلط اختلاطاً قاهراً بالروح، فمتى ذهب العقل ذهب خير ما في الروح كذلك". إذاً، من هذا الكلام نفهم بصورة مباشرة ان امين الريحاني قد انطلت عليه هو الآخر خديعة اهل مي زيادة. وما هذا النص الذي سعى الى كتابته آنذاك سوى"اعتراف واستغفار"على حد تعبيره.
- إذاً، حين كتب الريحاني النص الأساسي الذي يؤلف مثل هذا الكتاب، انما كان يريد منه ان يكون اشبه بتراجع عما كان فكر فيه في حق تلك المبدعة التي سيصور لنا كيف ربطته بها صداقة عميقة، حيث انه في بعض صفحات الكتاب يروي لنا، بكثير من الرومانسية، قصة اول لقاء بينهما يوم كانت مي اديبة ناشئة بل وزهرة أدبية . ثم يتابع الريحاني حكاية تلك الفتاة التي كانت غالباً تأتي وتذهب برفقة والدها، متنقلة بين بيروت ومصر، من طريق وطنها الأول فلسطين. وهو تابع جهودها الأدبية وصعودها... لكنه تابع كذلك حكاية تعلقها بجبران خليل جبران، وإن لم يكن قد ابدى رضاه ابداً عن ذلك التعلق. فهو كان يعرف جبران عن كثب ويتوقع منذ البداية ان حبها له سيدمرها، دون ان يحرك فيه جفن. وهكذا بعد ان يقدم امين الريحاني هذه السيرة ، مع سيرة فكرية، لمي، في اختصار شديد ينتقل الى جوهر كتابه، الذي يصبح محضر اتهام ضد كل الذين تآمروا على مي وأنهوا حياتها الأدبية والعقلية. وهنا يتخذ الكتاب شكل التحقيق ومن هنا يكاد الكتاب يبدو أيضاً، صورة ما لاشخاص او اجواء معينه . ومن هنا تبتدىء له قيمة لم تخطر في بال الذين جمعوه، وجعلوه جزءاً من"اعمال"امين الريحاني الكاملة. ونعرف طبعاً ان امين الريحاني كان مؤرخاً وأديباً وناقداً وفيلسوفاً ورحالة، وضع كتبه بالعربية والإنكليزية وكان من مؤيدي مؤسس الدولة السعودية الحديثة ومناصريه. اما مي فهي تلك الأديبة التي أطلت يوماً على الحياة الأدبية العربية فأثارت من الإعجاب بقدر ما أثارت في ضروب الحسد والحقد ... وكانت مأساتها الحقيقية ..