دمشق وبغداد. عاصمتا العروبة ومهد البعث العربي. في الفضاءات وفي الشوارع والأمكنة يتبعثر القلب، وتستحضر النفس أرواح الأمجاد، وهتافات النهضة.
كانتا، دمشق وبغداد، وهما تخرجان الآن من حروبهما المفتعلة أكثر بأسا وأكثر جمالا، في طليعة المدن المدهشة، شوارعهما ملأى بالهتاف وعلى ضفتي النهر، يتسامر أبو جعفر المنصور مع صلاح الدين، ويلقوا علينا مواعظاً في الحب والحرية والعدل.
لو قيّض لمسافر أن ينقله الزمن لتاريخهما المضيء؛ المشي في الليل في الشوارع، امتطاء المنابر في الميادين، محاكاة الذين بعثوا فينا مجد الأمة، مؤتمراتهم وسهراتهم، "غرف التوقيف وزرد السلاسل"، قصاصات الورق المغلّفة بالبعد والأسى، لو قيّض له عيش التجارب المرّة، لعاد من هناك، محمّلاً بالأسى؛ على بغداد ودمشق، وطرابلس وصنعاء، عواصم المجد العربي، التي تخوض الان معارك التحرير، ضد الجهل والخرافة وضد التتار والمغول.
على التاريخ الذي يضيع على فوهة بندقية، وغبار قذيفة. على الكتب التي تتحوّل ذخيرة للمواقد، تلتهمها النيران غير عابئة بقطرات الدمع ولا بحبات الدم على صفحاتها.
ماذا فعلت الحروب بأبهى المدن، ماذا سنقرأ لأهلنا عن سنوات الحروب التي خدعتنا بشعارات زائفة، فأضاعت تاريخ صبرنا وكفاحنا المرير، بماذا سنعتذر عن الإستعمار الذي قاومناه بالدم والصبر، فعاد من النافذة يعيث في الفكر فسادا وفي الأدمغة غسيلا.
كيف السبيل للنهضة الجديدة، كيف السبيل لإثابة مجلات الأوائل وصحفهم وخطاباتهم وقواعدهم نحو الحرية والتحرير.
كيف يمكن أن نمتطي خيل الحضارة وركائب العولمة، ونصنع تاريخا للعرب جديد، فيه من روح المؤسسين ومن صهوات خيلهم، وفيه من جذوة الشباب المتقدة.
هذه أسئلة المشهد المقلقة، أولها بالوقوف على الأسباب التي آلت معها البنية الثقافية للمدن نحو التراجع والجمود، ومشاهدة حقد الاستعمار كيف فعل بأصحاب الحضارة، وكيف أضحى تقدمهم تخلّفاً ونكوصا، وثانيها هو انقاذها من صفقات سياسية محتملة، والنأي بها عمّا يلوّث تاريخها الكبير، ثم الانطلاق بعد ذلك نحو التأسيس من جديد لبنية ديمقراطية وتعليمية ليعتليها بنيان الحضارة والتقدم، محفوفة بحواضن الإبداع من شتى الينابيع.
يستحق أولادنا وأحفادنا أن تستقيم لهم الحياة. أن يفخروا بعروبتهم وقوميتهم ومدنهم.
علينا لهم أن نحمل المعاول لنبدأ البناء، أمّا الركون لليأس والاستسلام للفوضى، فهذا أصل التخاذل والفناء.
ستنهض المدن الجميلة من جديد، وسيكون شرط نهضتها أن تنفتح على العالم، بشروط العروبة ومبادىء القومية، وأن يكون خيار الناس السياسي والاقتصادي بأيديهم، حينذاك، سيكون لها في الميادين أعلام ورايات، وستنطفىء نيران الفتن، وستعلو أصوات العروبة والقومية والدين، لا سبيل لها إلّا ذاك.