في أولى سنوات الدراسة الجامعية في البصرة الفيحاء، كان بعض العراقيين يسألونني بعد التعارف حد التقارب: أأنت أردني أردني أم أردني ذو أصل فلسطيني؟ فكنت أجيبهم على سجيتي: "أنا أردني أردني" ، فيبدأ بعض بعضهم لا كل بعضهم بانتقاد الأردنيين ذوي الأصول الفلسطينية وأنا مثل الأطرش بالزفة.
ثم ذات يوم أخبرت زميلي الذي كان يشاركني المسكن في البصرة بالحكاية، وهو أردني ذو أصل فلسطيني؛ فقال لي: "جرب مرة أن تجيبهم بأنك أردني ذو أصل فلسطيني"، واشهد فيما بعد كشاهد من أهله على ما يقولون.
وما صدقت أن أسمع من أول عراقي يسألني السؤال عينه، حتى أجبته: "أنا أردني ذو أصل فلسطيني". وما أن أجبته هكذا حتى راح ينتقد الأردنيين الأردنيين بما أنزل الله به من سلطان، وأنا مثل الأطرش بالزفة.
ودارت الأيام وسألني عراقي السؤال نفسه؛ فأجبته: "والدي أردني، ووالدتي فلسطينية"، وعينك ما تشوف إلا النور! "حط لسانه سايلنت".
ومنذ تلك اللحظة، أينما أشرقت الشمس على وجه الأرض ومتى غابت عن أديم الأرض، كنت وما زلت أجيب أيا كان على السؤال الكيدي عينه بالكذبة البيضاء ذاتها بأن والدي أردني، ووالدتي فلسطينية، فتجد السائل في "حيص بيص" من أمري لا يدري ما يقول ولسان حاله: "هاي عويصة"!
وفيما بعد، وفي مقر الاتحاد العام لطلبة الأردن، فرع البصرة، عقدت ندوة مشتركة حول معركة الكرامة في ذكراها الرابعة والثلاثين بين الإتحاد العام لطلبة الأردن والإتحاد العام لطلبة فلسطين. كنت المتحدث باسم الاتحاد العام لطلبة الأردن في تلك الندوة بتكليف من الهيئة الإدارية للإتحاد آنذاك.
بداية الندوة كانت مع المتحدث باسم الاتحاد العام لطلبة فلسطين الذي ألقى كلمة استغرقت نصف الساعة تقريبا، ذكر فيها أن الفضل في هزيمة العدو الصهيوني في تلك المعركة يعود بشكل رئيسي إلى الفدائيين الفلسطينيين مع دور ثانوي للجيش العربي، وراح يصول ويجول في عرض الندوة وطولها بما تيسر لديه من أدلة وبراهين تدعم وجهة نظره.
جاء دوري لألقي كلمتي التي إستغرقت نحو نصف دقيقة؛ فقلت بعد التحية والسلام: "كنت قد إطلعت على العديد من المصادر الأصيلة والمراجع القيمة لهذه المعركة التاريخية، وقد توصلت الى نتيجة مفادها أنه لولا الجيش العربي لما انتصر الفدائيون، ولولا الفدائيون لما انتصر الجيش العربي، والسلام عليكم".
وما قلته في الندوة ليس كذبة بيضاء ولا حتى سوداء، انما كانت وجهة نظري في أقرب نقطة لها من حقيقة ما جرى في تلك الملحمة، إجتهدت في الوصول إليها من خلال ما تيسر لدي من أدلة قاطعة وبراهين ساطعة تساند رأيي فيما حصل على أرض الواقع في الحادي والعشرين من شهر آذار لعام 1968.
وفي منتصف سنين دراستي، ذات مرة قلت "يا الله" وأنا أغلق باب سيارة بعدما ركبتها، كان سائقها قد توقف لي عندما أشرت له وأنا واقف في نهاية شارع الوطن من ناحية شارع 14 تموز في البصرة.
قال لي السائق بلهجته العراقية: "هم زين انت تكول يا الله، أكو غيرك يكول يا علي". أي: حسنا أنت تقول يا الله، هناك غيرك من يقول يا علي. وهو كان يعني الشيعة فيما يعنيه من كلمة "غيرك".
السائق كان مسيحيا، فقد كانت هناك مسبحة ذات صليب تتدلى من المرآة.
وجهتي كانت نحو منطقة أبي الخصيب، إذ كانت تبعد عن البصرة مسافة لا بأس بها من أن تتسع لحديث دار بيني وبين السائق حول الأديان.
ولما وجدني السائق أقف على مسافة واحدة من جميع الأديان على إختلاف مللها ونحلها، وعلى تباين مذاهبها وطوائفها، سألني: "أدري إنت مسيح لو مسلم؟ أي: إحترت في أمرك، أأنت مسيحي أم مسلم؟" فقلت له: "والدي مسيحي، ووالدتي مسلمة". فغر فاه متفاجئا، رفع حاجبيه مندهشا، توسعت عيناه متعجبا وهو يحقق معي كيف أنى لهذا أن يحصل! وبعدما انطلت عليه الكذبة البيضاء هذه، باغتني بسؤال ما كان في الحسبان:" زين ما طول انت هالشكل شو تكول عن القرآن؟" أي: ما دام أنك هكذا، ما رأيك في القرآن؟ أجبته: القرآن لا يدعو الى عمل خاطئ، ومع إجابتي هذه، كنت قد وصلت إلى مبتغى وجهتي.
وإجابتي الأخيرة بأن القرآن لا يدعو إلى عمل خاطئ ليست كذبة بيضاء بل هي ترجمة دقيقة لقناعة تامة لا تشوبها شائبة كإنسان ولد مسيحيا، سبق له وان اطلع على القرآن من ألفه إلى يائه.
يقول دايل كارنيجي مؤلف كتاب (دع القلق وإبدأ الحياة): "إذا أردت أن تكسب جدلا فتجنبه" .
لاحظ معي عزيزي القارئ أن كارنيجي تحدث هنا عن كسب الجدل ليس عن كسب الحوار، وشتان ما بين الجدل والحوار؛ فكل جدل هو حوار، لكنه حوار طرشان، وليس كل حوار جدلا.
والكذبتان البيضاوان سالفتا الذكر كانتا وما زالتا خير وسيلة لي لغاية كسب أي جدل يتعلق بهوية المواطن وديانته.