لم تبق الوزارة العسكرية في الحكم الا تسعة ايام ، قبل ان يستقيل رئيسها الزعيم محمد داوود وهو في القاهرة ، تحت الضغط النفسي الذي تعرض له من قبل بعض الدول والمنظمات ، وقد سافر من القاهرة الى ليبيا ، بعد ان ارسل كتاب استقالته الى السفير الاردني في القاهرة حازم نسيبة ، فعهد الملك الحسين لاحمد طوقان لتاليف وزارة مدنية ، استمرت خمسة وثلاثين يوما ، ثم استقالت وخلفتها حكومة وصفي التل في 28 تشرين الاول 1970 .
وقد اخذت حكومة وصفي التل على عاتقها مسؤولية اعادة الامن والنظام الى البلاد ، حيث تم في عهد حكومة وصفي التل اخراج الفدائيين من المدن والقرى والاماكن المأهولة الى المناطق الحرجية في جرش وعجلون . وفي عهد حكومة وصفي التل تم تعيين مجلس اعيان جديد في الاول من تشرين الثاني 1971 برئاسة سعيد المفتي ، وافتتح في عهدها المؤتمر الاول للاتحاد الوطني الاردني في 25 تشرين الثاني 1971 وعين مصطفى دودين امينا عاما له .
وكان وصفي التل قد حارب في جيش الانقاذ بقيادة فوزي القاوقجي عام 1948 ، وعارض وصفي عهد حكومة بهجت التلهوني التي سهلت المهمة ومهدت الطرق لدخول الفدائيين الى المدن بسلاحهم وانتقالهم امام عين حكومة التلهوني الى المدن تدريجيا ، واقامة قواعدهم وتكديس اسلحتهم في المدن حتى اصبح لهم الصولة والسلطان في الاردن ، على شكل دولة داخل دولة ، مما جعل الجيش يتمرد عندما تراخت الحكومة ، ووضع الجيش الامور في نصابها فاعاد الامن الى البلاد .
بعد طرد الفدائيين من عمان والمدن الاردنية والقرى والمناطق المأهولة ، قررت المنظمات الانتقام من الدولة الاردنية ، فاستخدمت اساليب خطف الطائرات، ووضع عدد من الشخصيات الاردنية على راس قائمة الاغتيالات المسلحة ، وكان الرئيس وصفي التل على القائمة ؛ فهو الذي في عهد حكومته فقدت المنظمات قواعدها في المدن واخرجت الى الغابات البعيدة ، ولم تعد لهم سلطة خاصة بعد ان تشتت قادتهم في الدول العربية وانحاء العالم .
لم يكن وصفي التل يريد انهاء المقاومة الفلسطينية ؛ انما يريد ان تكون منضبطة متعاونة مع الحكومة الاردنية . وقد جاءت فرصة المخططين لاغتيال وصفي التل مناسبة بعد ان اعلن في عمان ان رئيس الوزراء ووزير الدفاع وصفي التل سوف يشترك في اجتماعات مجلس الدفاع العربي في القاهرة في اواخر تشرين الثاني 1971 .
وقد حذر مدير المخابرات الأردنية وقتها الفريق نذير رشيد الرئيس وصفي التل بأن النظام الناصري يعد لاغتياله ، فقال له وصفي : (ما حدا بموت ناقص عمر والأعمار بيد الله).
غادر وصفي التل عمان الى القاهرة في 26 تشرين الثاني 1971 ومعه عبد الله صلاح وزير الخارجية ، وحل الوفد الاردني في فندق شيراتون ، وزار وصفي التل بعض رؤساء الوفود العربية ثم حضر الجلسة الاولى لمجلس الدفاع ، وفي صباح الاحد 28 تشرين الثاني ذهب الى مبنى الجامعة العربية لحضور الجلسة الثانية يرافقه عبد الله صلاح وزير الخارجية وعلي الحياري سفير الاردن في مصر واللواء محمد خليل عبد الدايم رئيس هيئة الاركان . وكانت جريدة الاهرام قد نشرت خبرا مختلقا مفاده ان الوفد الاردني طلب اخلاء فندق شيراتون من جميع النزلاء الاردنيين ، وتحدث وصفي في الجلسة مطولا ، ثم تناول الوفود طعام الغداء في مقصف الجامعة ، بدعوة من الامين العام عبد الخالق حسونة ، ثم عاد وصفي الى الفندق ويرافقه عبد الله صلاح وعلي الحياري ومرافقه فايز اللوزي ، ونزل وصفي امام الفندق الساعة الثالثة والنصف وسار ومعه عبد الله صلاح الى داخل الفندق ، وقبل ان يصل الى الباب تعثر وكبى ، وترافق ذلك مع تساقط زجاج البوابة وصوت طلقات الرصاص ، حيث كان اربعة اشخاص يطلقون النار باتجاه وصفي ، فسقط على الارض وركع الحياري الى جانبه يحاول اسعافه ، ولكن الاصابة كانت بالغة فتوفي على الفور ، وقد تمكنت اجهزة الامن المصرية من القبض على القتلة . وعندما وصل خبر استشهاد وصفي الى عمان عم الحزن وموجة من الغضب العارم ورثاه الحسين بنفسه عبر وسائل الاعلام قائلا : " عاش وصفي جنديا منذورا لخدمة بلده وامته ، يكافح برجولة وشرف من اجلهما ... قضى كجندي باسل فيما هو ماض بالكفاح في سبيلهما " . وفي اليوم التالي شيع جثمان الشهيد وصفي التل الى المقابر الملكية ، في جنازة مهيبة .
وقد تبين ان القتلة الاربعة جاءوا الى مصر من بيروت باسماء مزورة وبجوازات سفر سورية بعضها مزورا ومع كل واحد مسدس وذخيرة ، وكانت السلطات المصرية قد ضبطت اثنين منهم اثناء دخولهما مع مسدسيهما فاعتقلتهما ثم اطلقت سراحهما بعد ساعات ، وقد اقام القتلة اسبوعا في القاهرة قبل يوم الجريمة ، وكانوا يترددون على فندق شيراتون يخططون كيفية تنفيذ الاغتيال ، وقد ادلوا بعد القبض عليهم باعترافات كاملة ، فقد اعترفوا انهم سافروا الى الباكستان مرتين خلال عام 1971 لاغتيال الامير الحسن بن طلال ، وقد كان القتلة ؛ محمد نبيل سلامة وكان ينتحل اسم عزت رباح ، وجواد احمد ابو عزيزة وكان ينتحل اسم جواد خليل بغدادي ، وخيري سليم خشان وكان ينتحل اسم منذر خليفة ، وزياد محمود الحلو وكان ينتحل اسم زياد بدران . وقد اعلن القتلة انهم ينتمون الى منظمة " ايلول الاسود" بينما نفى ابو داوود في مقابلة مع الاذاعة الاردنية وجود منظمة تحمل هذا الاسم ، وقال ان عمليات القتل والارهاب كان يقوم بها ثلاثة اشخاص من فتح هم ؛ محمد يوسف النجار وابو حسن سلامة وكمال عدوان ، وكانوا يتلقون تعليماتهم من صلاح خلف ابو اياد الرجل الثاني في فتح .
قدم قتلة وصفي التل للمحاكمة امام محكمة امن الدولة العليا المصرية عام 1972واسندت لهم تهمة القتل العمد مع سبق الاصرار والترصد . واعترف القتلة ان قتل وصفي التل انتقاما لمقتل ابو علي اياد ، وقد ترافع عن القتلة عدد من المحامين منهم احمد الشقيري رئيس منظمة التحرير السابق . واخلت المحكمة سبيل المجرمين بكفالة ، وقد بدا واضحا ان المحاكمة كانت صورية امام الضغط السياسي من بعض الدول والمنظمات على مصر وخاصة الرئيسين الليبي معمر القذافي والجزائري هواري بو مدين وبتعاون من الرئيس انور السادات نفسه .
لقد كان لوصفي التل تاريخ حامل في النضال القومي ، فقد ولد وصفي مصطفى وهبي التل نجل عرار شاعر الاردن في عام 1919 في كردستان العراق ، وامه كردية تدعى منيفة ابراهيم بابان ، عاد الى اربد في الاردن وعمره 6 سنوات ، وقد انهى دراسته في مدرسة عنبر في دمشق ، ودرس بمدارس الاردن ؛ فانهى دراسته الثانوية في مدرسة السلط عام 1937، ثم التحق بكلية العلوم الطبيعية في جامعة بيروت العربية ومن رفاقه في الجامعة محمود ضيف الله الهنانده وخليل السالم وحمد الفرحان .
وقد التحق وصفي بعد عودته الى الاردن بالعمل الحكومي ؛ فامتهن التدريس في مدارس الكرك وغيرها من مدن وقرى الاردن ، وانضم الى الجيش البريطاني ، ثم سرح من الخدمة بسبب ميوله القومية العربية .
وقد التحق وصفي التل بجيش الجهاد المقدس بقيادة فوزي القاوقجي ، وحارب في فلسطين عام 1948 ، وقد اسند له الملك المؤسس التدريب في جيش الانقاذ مع خمسة من الضباط الاردنيين الذين كانوا يقومون بتدريب الفلسطينيين وهم ؛ الملازم الاول علوش داغش ابو تايه ، والملازم الاول علي الهويري السرحان ، والملازم الاول محمد حمد الحنيطي ، والملازم الاول مسند حرب ابو تايه ، والملازم الاول مهدي بخيت الدراوشة ، ومعهم عدد من ضباط الصف المتقاعدون منهم الوكيل فارس الخريشة ، والوكيل سالم ارشيد النمر الفايز ، ثم اقام وصفي المصطفى التل في القدس ، وعمل مدربا مكلفا من الملك عبد الله الاول لجيش الجهاد المقدس بقيادة عبد القادر الحسيني في القدس ، وعمل كذلك في القدس في المركز العربي الذي كان يديره موسى العلمي ، ثم التحق بوظيفة مامور ضرائب في ضريبة الدخل ، ثم موظفا في مديرية التوجيه الوطني ، ثم مديرا للتوجيه الوطني عام 1955، ثم مديرا للاذاعة الاردنية ، وعمل سفيرا للاردن في بون الى عام 1961 ، وفي 28 كانون الثاني 1962 شكل حكومته الاولى وحكومته الثانية عام 1965 ، وحكومته الثالثة عام 1970 .
وقد تزوج وصفي التل من سعدية الجابري وهي اصلا من حلب ،ولم ينجب وصفي اطفالا ، وبعد وفاتها عام 1995 حول بيت وصفي الى متحف تراثي يحكي قصة وصفي .
الى اللقاء في الحلقة القادمة ...