سباق في ميدان «المحسوبيات»
حسين الرواشدة
07-02-2019 12:43 AM
في العقود الماضية كان الموظف العام في مؤسساتنا مثالا للنظافة والنزاهة والاستقامة، وكانت الخدمة التي تقدم للناس تعكس عافية مجتمعنا، وهيبة القوانين والدولة ايضا، وباستثناء تجاوزات نادرة ولدتها بعض اعراض المحسوبية لم نكن نشهد في الاداء العام للادارة اي تجاوزات، على العكس تماما فقد كان الوزير او المسؤول يجسد صورة حقيقية للرجل المناسب في المكان المناسب، وكان الجمهور على ثقة دائما بأن القرارات التي تتخذ تنسجم تماما مع مصلحته وطموحاته ايضا .
هذا كان قبل ان ينزل بعض المسؤولين ( بالبرشوت) على الوظيفة العامة، وقبل ان نبتلى بظاهرة ( مسؤول ليلة القدر )، هذا الذي ذكرنا به المؤرخ عبد الكريم الغرايبة (رحمه الله)حين اشار الى ما شهده جزء من تاريخنا حين وصل بعض الاشخاص الذين حلموا في ليلة القدر بأنهم سيعتلون ظهر الوظيفة العامة، وقد حصل ذلك رغم انهم لم يكونوا مؤهلين لذلك، ومن الاسف ان بلادنا شهدت مثل هذا النموذج، ووجدنا في مواقع كثيرة ومهمة اشخاصا لا علاقة لهم بالشأن العام، ليس لأنهم يفتقدون - على الصعيد الشخصي- المواصفات اللازمة، وإنما لأن اداءهم الاداري متواضع، كما ان قدراتهم الفنية لا تتناسب مع وظائفهم، هذا اذا أحسنا النية بما لديهم من قيم تصلح لممارسة الوظيفة العامة، كأن يكونوا بعيدين عن «فقه الشطارة» وما يترتب عليه من «نهم» للجشع والنهب والفساد والسرقة وغيرها من آفات الادارة والمسؤولية ايضا . .
مناسبة هذا الكلام - بالطبع - لا تقتصر على ما جرى مؤخرا في قضية تعيين عدد من اشقاء النواب ولا على التعيينات التي في وظائف الدرجات العليا في الادارة، ولا على الوزارات ايضا، وانما تتجاوزها الى ما جرى من عبث في مؤسساتنا الاخرى بمختلف المواقع الوظيفية، ولو قُدًّرَ لأحدنا ان يرصد الشكاوى التي يجهر بها الاساتذة في الجامعات، او الموظفون في المؤسسات الحكومية المختلفة، حول معاناتهم من الاجراءات المعتمدة عند التعيين او الترفيع، ومن غياب معايير الكفاءة وشيوع المحسوبية والمزاجية لادركنا - حقيقة - حجم هذه المشكلة التي تحولت الى ظاهرة مرعبة، دفعت الكثيرين من اخواننا الى الاحساس بالظلم، او الى البحث في الخارج عن وظيفة تليق بمؤهلاتهم، كما جرحت انتماءهم لمؤسساتهم، وقتلت داخلهم قيم الاتقان والاخلاص والمسؤولية، ورسخت فيهم شكوكا متراكمة حول مبادئ العدالة والمساواة، واشاعت - في اوساط البعض - ثقافة التزلف والواسطة، ما انعكس سلبا على اداء الموظف في اداراتنا العامة، وعلى القيم التي نحاول ترسيخها لدى شبابنا وابنائنا منذ نعومة اظفارهم.
اعتقد ان ما اصاب الادارة العامة في بلادنا من شتى انواع الخلل، وما اصاب اداء مؤسساتنا الاخرى من تراجع، وما طرأ على قيم الوظيفة من انكسارات وتحولات مغشوشة، كان وراءها غياب معايير واضحة ومعلنة لاختيار الموظفين وترفيعهم، ومكافأتهم ومحاسبتهم، على اسس عادلة وبعيدة عن المحسوبية والنفعية الشخصية، وبالتالي فان معالجة هذا الخلل والتراجع لا يمكن ان يتحقق الا اذا استعدنا هذه المعايير، لا من خلال لجان شكلية فقط وانما من خلال ارادة حازمة لا تسمح لأحد ان يسقط بالبرشوت على موقع ما، او تحرم شخصا كفؤا من حقه في التعيين او الترفيع، او تترك الميدان لسباق المحسوبيات كي يقرر الفائز بدل ان يكون القانون هو الحكم.
الدستور