المسؤول في بلدي أصبح يتنقل بين المناصب أكثر من تنقل بكم الغاز بين الحارات، فقد أحالت الحكومة موظفا بمنصب كبير على التقاعد في الصباح، ومن ثم قامت بتعيينه بمنصب كبير آخر في المساء، أي أن الرجل في اللحظة التي كان يتلقى بها رسائل المواساة بأنها استراحة المحارب، لم تكن بالمقابل الحكومة تسمح له حتى باستراحة شاي!
مع أنني خرجت لتركيب بواجي للسيارة تزامنا مع توقيت خروج هذا المسؤول من منصبه، هو عاد مديرا في المساء وأنا إلى الآن عند الميكانيكي نشرب الشاي حتى نكتشف فقط إحدى البوجيات المعطوبة!
الذي يصاب بالرشح يحتاج إلى ثلاثة أيام من الراحة والليمون والإقامة الجبرية تحت اللحاف مع استهلاك نصف إنتاج شركة فاين حتى يستطيع العودة إلى حياته الطبيعية، بينما بعد ثلاث ساعات من تقاعد هذا المسؤول عاد إلى منصب آخر أي أنه لم يدخل منزله متقاعدا مع أنه تقاعد.. ما يحيرني في مثل هذه التعيينات التي تتجاوز سرعة الضوء هو فقط ماذا نقول له: هل كفيت ووفيت؟! أم بكم تزهو المناصب.. فحتى الخلايا العصبية للمقربين منه أصابها خلل فني فهي لم تدرك بعد هل تعطي أوامر للعين بأن تذرف الدموع على خروجه، أم للشفتين بأن تضحك وتبتسم على إعادة تعيينه.. لأنه حتى في مباريات كرة القدم يعطى اللاعبون استراحة بين الشوطين مدتها ربع ساعة، بينما لم تسمح الحكومة لهذا المسؤول أن يلتقط حتى أنفاسه بين المنصبين!
منذ أسبوع قمت بتوصية خضرجي الحارة على كم كيلو رمان حلو وما يزال يبحث لي عن الرمان، بينما الحكومة في ساعات بحثت وتقمصت ووجدت الرجل المناسب في المكان المناسب، ففي حكومات النهضة تجد أن خروج قرار تعيين القيادات العليا في الدولة أصبح أسرع من خروج تقرير فحص الدم!
حين رفعت الضرائب على المواطنين بأكثر مما قامت برفعه رافعات في ميناء العقبة من حاويات قالوا لنا إن المقابل سيكون خدمات وعدالة في التعيينات ومحاربة الواسطة والمحسوبيات.
فكان الرد أن معظم التعيينات الأخيرة في مناصب الدولة ارتبطت إما بصديق أو شقيق مسؤول، لنثبت أن حكوماتنا لا تحتاج إلى 100 يوم مهلة لتخطط بل ما تحتاجه 100 يوم فقط لتزبط!
نعم عادوا بنا إلى العصور الوسطى وإلى عهد المقايضة، مشيني بمشيك.. هاي بدل هاي.. وآخر العروض المغرية اليوم ليست على علب الفول ولا على صوبات الكاز ولا على حليب الأطفال شعورا مع الفقراء، بل العرض الساري الآن على المناصب التي تمنح لـ”تسهيل” عمل الحكومة، وذلك شعورا مع الموازنات والقوانين وكل ما يمرر!
كم يثير ذلك اليأس بين الناس وعدم الثقة بكل إجراء حكومي فالعقد الاجتماعي الموعود أصبح عقد تعيين، فالموسرجي لا يصلح أن يعمل كهربجي، والمهندس لا يقوم بفحص الغدة الدرقية، والطيار لا يمكن أن يصنع سيخ شاورما، فلكل منهم اختصاصه.
إلا في مناصب الدولة، فمدير الأرصاد الجوية ممكن أن يعين مديرا للضمان، ومدير الأراضي ممكن نقله مديرا لهيئة تنظيم قطاع الاتصالات، ومدير دائرة الإحصاء العامة ممكن تكليفه بمهام مدير عام هيئة الطاقة الذرية!
أتدرون لماذا؟!.. لأنهم مدركون أن لن يكون هناك أي إنجاز أو تقدم أو ازدهار قد يلمسه المواطن، فليكن إذا تزبيطا يلمسه الرافعون والمقربون والأخوة الصامتون الموافقون!
الغد