مثل شاشات كبيرة، تتراقص العناوين أمام فم القصبة، فتغرق الرؤية ويغرق التشكيل.
وسط أبعاد متشابكة، تتداخل السياسة بالاقتصاد، والرياضة بالسياسة، فتتجزأ الفكرة وتتوزع.
أقف الآن قيد الرمح من أفكار الساسة وتداعيات النخب، واتساءل معهم عمّا يمكنه ان يخرج الناس من متاهة الاقتصاد والسياسة، فتستحيل الحلول وسط هذا التلاطم.
أقف لأقرأ التقارب مع الأتراك، فتعود الحروف طوعا للعلاقة التاريخية التي وثّقت علاقة العرب بالعثمانيين حتى أفسدها الإتحاديون عام 1910.
لا يستطيع المراقب أن يقرأ ما يحدث الآن دون ان يتكىء على إحاطة شاملة.
نتقارب مع الأتراك دون سفير في ايران. نقف على مسافة واحدة مع الفرقاء المنتشرين على رقعة المتوسط والخليج ونجتهد في القبض على العصا وقد تاه منتصفها. أزمات اقتصادية داخلية خانقة، اتعبت الخيول والنفوس والاجساد.
نفرح لفوز قطر ونحزن على هزيمة الإمارات، نرتكب مخالفات السير ونحجم عن الترخيص انتظارا للعفو، فتسير في شوارع المملكة عشرات الآلاف من السيارات دون ترخيص، نمارس فوضى المعايير والمقاييس كل يوم على صفحات التواصل الاجتماعي، نشتم ونبارك ونحزن، ثم نعود آخر الليل نفكّر بالفواتير ورحلات نهاية الاسبوع.
لقد بتنا بحاجة لعيادات نفسية أكثر من حاجتنا للماء والطعام.
على قلق، كأن الساسة يركبون الريح ويأمروها يميناً أو شمالا.
في لندن، رأيت كيف تلعب عاصفة بريكست في سواري الأعلام وتثير قلقا في النفوس. ما زال الإنجليز ينقسمون على بعضهم، نصفٌ سارت ركائبه للإتحاد، ونصفٌ آخر يُقسم بحياة ملوك القلاع أن الأوروبيين لن يطأوا ثرى ويلز ولا متحف مدام توسو إلا ضيوفا.
وكذا الحال في واشنطن، دخلت سياستهم الخارجية إلى فنزويلا فجأة ودون تبرير من أوسع الأبواب، فشيطنت الرئيس ودعت لتنصيب رئيس البرلمان. إنها خلطة سياسية قلقة.
لن يستقيم هذا الإعوجاج في التفكير وفي العمل وفي تفاصيل الحالة العامة، سوى بالهرولة نحو البدايات، ونحو عقد العروبة وفكرة القومية الذي ستنصهر في وعائه الكبير كل هذه التلاطمات، وبينما تضيق أحلام الناس وسط هذه العواصف التي تزدحم بها فضاءاتهم، وتضيق سبل الخروج، لا بأس ببعض ما كتبه الناس إبّان كانت فكرة القومية في أوج الإعتزاز بها.
لقد كتب طه حسين يوما عن قوميتنا العربية، وقد قال فيها ما يمكن أن يكون ضوءا في نهاية نفق طويل: هذه هي القومية العربية، كوَّنها - أو حاول تكوينها - الشعر أول الأمر، ثم كوَّنها القرآن آخر الأمر، ثم جعلت تفرض نفسها في غير عنف ولا إكراه على العالم القديم، حتى احتلَّت مكانة الإمبراطورية الرومانية واحتلَّت مكان الدولة الفارسية. وهي الآن بعد أن عَدَتْ عليها الخطوب، وبعد أن ألحفت عليها الكوارث، وبعد أن ألح عليها التُّرْك بنوع خاص في عصور مختلفة من حياتهم، وبعد أن اضطُرَّت إلى الخمول وإلى الضعف؛ ظلَّت على الرغم من هذا كله محتفِظةً بقوميتها، محتفظة بلغتها وعقليتها وشعورها وكل ما يميزها.
ظلت محتفظة بهذا كله، وقد عَرَضَتْ لها الخطوب المختلفة، فانقسمت وانفصل بعضها عن بعض ونشأت فيها دول، برغم هذا ظلت - وستظل - واحدة في الشعور، وواحدة في التفكير، وواحدة في الآلام، وواحدة في الآمال.