كان المسلمون من كل الدنیا، عبر التاریخ یرسلون الزیت للقنادیل داخل المسجد الأقصى، ومسجد قبة الصخرة، من اجل اضاءتھا، وكأن اضاءة الموقع في المساء تتمرد على الجغرافیا، فھذه ھي مدینة القدس، أم جامعة.
بعضھم كان یتبرع بالمال، من اجل ایقاد ھذه القنادیل، التي كان یصل عددھا الى عشرین ألف قندیل تضيء الحرم القدسي الشریف، خصوصا، في الأعیاد، مثل عید الفطر، وعید الأضحى، اما في الأیام العادیة، فكان عدد السراجات المضاءة، اقل، إضافة الى وجود بئر مخفیة للزیت تحت الأقصى، كانوا یجمعون الزیت فیھا.
الحرم القدسي الشریف، لم یكن فلسطینیا، بالمعنى السیاسي الذي یتحدث عنھ كثیرون الیوم، اذ ان الموقع دیني، وھو في عنق كل عربي ومسلم، فقد كان أولى القبلتین، وھذا یفسر ان المسلمین من كل الدنیا، كانوا یتبرعون بالزیت، او الوقود، في ذلك الوقت، من اجل اضاءة ھذه السراجات، وھویتھ الدینیة كانت فوق الھویة الوطنیة او القومیة او كل أنواع الھویات التي تشظت فوق رؤوسنا.
المؤرخ مجیر الدین الحنبلي یقول في كتابھ ”الأنس الجلیل في تاریخ القدس والخلیل“ أنھ كان یتم إیقاد القنادیل والسراجات كل لیلة في الحرم القدسي وقتي العشاء والفجر، وان عدد ھذه القنادیل في داخل المسجد الأقصى، وعلى أبوابھ بلغ 755 قندیلا، وفي مسجد قبة الصخرة بلغ خمسمائة وأربعین قندیلا بالاضافة الى ما یوقد في الأروقة، وأما في لیلة النصف من شعبان فقد كان یوقد في المسجد الأقصى وقبة الصخرة ما یزید على عشرین ألف قندیل وھذه اللیلة كانت من عجائب الدنیا، فتضيء كل منطقة الحرم القدسي بعشرات آلاف السراجات“ .
المسجد الأقصى، لیس مجرد مبنى، فالموقع بحد ذاتھ، حافل بالذكریات والشواھد التاریخیة، وقد بذل كثیرون جھدا في التأریخ للموقع وما فیھ، الا ان الذاكرة القومیة والإسلامیة بحاجة دوما الى إنعاش وتجدید وتذكیر، خصوصا، مع الاقتحامات الإسرائیلیة الیومیة التي تھدد كل الحرم القدسي الشریف، وھي اقتحامات تصطدم في كل الأحوال بتاریخ انساني ممتد یقف بقوة قبل الحجر وبعده في وجھ ھؤلاء ومحاولاتھم طمس ھویة المكان وإنتاج ھویة زائفة، واحلالھا.
أھل الأردن كانوا تاریخیا بعد كل حج، یذھبون الى المسجد الأقصى، واذا عدنا الى ذاكرة كبار العمر، لحدثوك عن ”التقدیس“ أي تقدیس الحج وبشكل ادق إلحاق الحج بزیارة للقدس او المسجد الأقصى، وما یسمى بالتقدیس كان شائعا، وھذا یفسر أیضا، ارتباط أبناء الأردن تاریخیا بالمسجد الأقصى، وبالقدس، فھو ارتباط على صلة بالتاریخ والجغرافیا، وممارسات معتادة ارتبطت بالدین والوعي والقرب والخصوصیة، والدلالات التي على صلة عمیقة بالأماكن
المقدسة.
ھذه الصلة الأكبر، نراھا أیضا في جذور العائلات المقدسیة، وإذا كانت ھناك في القدس حارة للمغاربة، وعدد من العائلات المقدسیة یعود جذرھا الى المغرب، فلأن ذلك یعود الى ان ھویة المكان الدیني، ھویة جامعة ومتنوعة، والذي یقرأ جذور العائلات المقدسیة یكتشف ھذا الامر، وھو واقع ینطبق على كل المدن المقدسة، كما مكة المكرمة وعائلاتھا، والمدینة المنورة وعائلاتھا، التي تجد فیھا تنوعا على صلة بجاذبیة الإسلام، وعظمة التنوع فیھ، وھذه سمة كل المدن المقدسة، التي تصھر الأصول والجذور والأعراق في ھویة المكان.
حین تتابع الذي تتعرض لھ القدس ھذه الأیام، والحرم القدسي الشریف، تدرك أن أكبر ضلالة تم تسویقھا في ھذا العصر، ھي حصر القدس بجغرافیتھا الوطنیة، أي ربطھا بالشعب الفلسطیني، وحسب، واذا كان ھؤلاء حقا یرابطون دفاعا عن امة بأكملھا، ولھم الصدارة والفرادة في ذلك، إلا أن علینا ان نذكر مجددا، ان جغرافیة القدس الإنسانیة اكبر من ذلك بكثیر، فھي لكل من یحبھا، وھي أیضا، مطلوبة من اكثر من ملیار عربي ومسلم، ھم طوق الحمایة الذي یخصھا.
لم یعد ھناك زیت وقود لنرسلھ للمسجد الأقصى، وسراجاتھ وقنادیلھ، اتباعا لسنن الأولین، وما نراه الیوم، یجعلنا نعرف ان عودة الأقصى لا تكون الا بذات طریقة زیت السراجات، لكن بوقود من نوع مختلف، فلا نملك الا ان نقول للأقصى ”خذ روحي واسرج بھ روحك“ ولا شيء غیر ذلك ابدا.
لحظتھا یعود النور الى سراجاتھ، ویسترد المكان روحھ الكبرى. (الغد)