كيف يعالج الطبيب المريض وهو مريض ؟
11-08-2009 05:56 AM
لا تنتهي الفكرة حين تبدأ حول الجريمة .. فالكل له حكاية والكل له رأي ، ولكن يجتمع الجمع على رفض مبدأ الجريمة ومع ذلك فإنها تقع ، ولعل أي حديث حول الجريمة الأخيرة التي وقعت صباح يوم أليم في رابية عمان هو مجرد حديث غير نافع في ظل وجود إهمال كبير في المسؤولية الجماعية ، و عدم إصدار قوانين رادعة تقطع دابر الجريمة بأشكالها ، والاستخفاف بأهمية احترام الإنسان بالآخر ، ولهذا فمن السهل أن تجد كثير من الناس هم عبارة عن " مشروع مجرم " في أي لحظة .. ليمسي الرجل أبا ويصبح قاتلا لأبنائه .
خيرا فعل الرجل الذي لم يفعل خيرا و الذي قتل أسرته ، حينما قتل نفسه بعد جريمته الوحشية ، فلو بقي حيا لتم تحويله فورا للجنة طبية لفحص عقله ، ثم قد يقوم محام ما فيما بعد باللعب بأصابع شيطانية لتكييف الجريمة على أنها قتل عمد أو انها وقعت تحت تأثيرات عقلية ما ، وقد يصدر حكما عليه بالسجن مدى الحياة في أقصى عقوبة .. نقول قد .. بسبب ما نراه من إفلات كثير من البشر من العقوبة العادلة بفعل التكييفات والالتفافات والتشريعات البشرية الناقصة ، ولكم في كثير من "المنحرفين " الذين قتلوا شقيقاتهم بداعي الشرف ، الذي كان يفتقد اليه القاتل أصلا ، عبرة حينما أفلتوا من جرائمهم الكاذبة بدعوى الغضب والشك والاتهام والأسباب المخففة وإسقاط الحق الشخصي .
جريمة الرابية ليست الأولى خلال السنوات القليلة الماضية فلقد شهدت الرابية نفسها ثلاث جرائم جماعية قبلها .. وللأسف لن تكون الأخيرة بفضل التأثيرات التي باتت تحيط بنا في حياتنا العامة ، فهناك كثير من التأثيرات والمؤثرات التي تحول الإنسان الصحيح الى مريض نفسي ، أو إنسان همجي لديه استعداد فوري بالاشتراك في أي مشاجرة لأتفه الأسباب ، ليس أقلها تزاحم سائقي المركبات في الشوارع ، ولا فتح جار لنافذة بيته المطلة على منزل جاره .. بل إن آخر مشاجرة جماعية حدثت قبل يومين كانت بسبب شجرة .. ولن أذكّر بمشاريع البشر الفاشل الذين ملئوا الجامعات من طلاب لا يعرفون سوى التجمع زرافات وقطعانا ، ويشتركون في مشاجرات لأسباب تافهة تدور أكثرها حول فتاة أو أمور صبيانية .
في الأردن لوحده لو أحصينا الاختيار المفضل لدى جمهور الشباب من مشاهدي البرامج التلفزيونية عبر الفضائيات لوجدنا ـ وأنا زعيم بذلك ـ ان قنوات أفلام " الأكشن " والمطاردات والجريمة الأمريكية ، والتي تختص بها محطة لها مجموعة قنوات تابعة ، لوجدنا إنها المفضلة الأولى .. وعلى تعاليم أفلامها الوحشية البعيدة عن واقع ممثليها تربى آلاف الشباب فأصبح تأثيرها واضحا عليهم ، والمصيبة ان هذه المحطة العربية خصصت قناة لهذه الأفلام ، وهي تدخل البيوت بلا استئذان ، ورب الأسرة الجاهل يترك أبناءه عرضة للسهر الطويل أمامها دون ردع ولا تنظيم لساعات المشاهدة أو مايشاهدون ..
حتى ألعاب الأطفال في السوق المحلي أصبحت لا تتجاوز الأسلحة وأدواتها ، فضلا عن ألعاب " البلاي ستيشن " التي أصبحت توفر بيئة كارثية تمنح الطفل إمكانية قيادة سيارة بأقصى سرعة ، وممارسة ألعاب الكاراتيه وأخواتها ، وامتلاك الأسلحة وأطلاق الرصاص على أي شخص مرسوم متحرك داخل الشاشة ، وسرقة السيارات بالقوة والبنوك ، وكثير من الكوارث التربوية .. وهذا من شأنه تعويد نفس الانسان على الجريمة واستسهال القتل .
لقد جلست مع ابن أختي ، صاحب السبع سنوات ،خمس دقائق فقط على ذلك الجهاز ورأيت تفننه ، فوجدتني أجلس مع مجرم متعدد المواهب من الطراز الرفيع .. وكانت هذه الدقائق كفيلة بأن أحطم الجهاز وأشفر قنوات لا داع لها في جهاز "الريسيفر" المشغل للتلفزيون .. أنا لست أبا ، ولكن الإنسان بفطرته يعرف ما يحتاجه الأبن ، ويعرف ما يصح وما لا يصح .. فماذا تقولون برجل يعرف كيف يقتل طفله ولا يعرف كيف يربيه ؟!
يقول الشاعر الفيلسوف الألماني "فيلهيلم بوش " : {ليس صعبا أن يصبح المرء أباً، لكن أن يكون المرء أبا هو أمر في غاية الصعوبة } .. لذلك قد نجد أن رجلا ما هو أب مثالي ولكنه زوج غير مثالي ، أو العكس ، فقد يكون عبدا للزوجة ودكتاتورا على أبناءه .. وأحيانا قد يمارس تسلطه على الجميع ، وينسى انه هو الزارع ، فلا يندمن حين الحصاد ، فأن تكون إنسان فتلك ليست قضية ، أما أن تكون إنسانا طيبا تزرع الفرح في النفوس ، وتشذب أخلاق أسرتك ، وتهتم للكبير والصغير كما يهتمون بك ، وتعطي كما تأخذ وتربي نفسك وأبناءك على طاعة الله والصبر على النوائب والتسامح والقناعة فتلك هي القضية .
عموما لا يسعني التفكير كثيرا في تلك الجريمة التي تقشعر لها أبدان الوحوش .. لا والله حتى الوحوش لا تفترس جراءها ، فما ذنب أطفال زكت دماءهم قبل أن تسيل بلا ذنب .. ولكن دعونا نحشد ونعصف بأفكارنا لنجيب على سؤال غاية في الأهمية بتقديري :
كيف ننشئ جيلا متصالحا مع نفسه ومع محيطه ، ومع الآخر .. كيف ننتهي من جملة النعرة " والله أطخك " وهو لم يمسك سلاحا بيده يوما .. كيف نمسح جملة " إسمع .. أعرف مع مين بتحكي " من عقول شريحة تخاف من الصراصير .
سوف أسأل السؤال الكبير : كم من رب أسرة من المسؤولين هو مريض نفسي قتل بلا إراقة دماء آلاف الأطفال من المواطنين بقرارات أوصلت آباءهم الى الإنفصام والشعور بالنقص وقلة الحيلة وأهرقت ماء وجوههم ؟! .. من لا يجب عن السؤال فليتذكر اننا على أبواب جريمة أخرى مشابهة لا ندري متى تقع !
جملة أخيرة برسم سؤال الى المجتمع الأردني بشقيه الرسمي والشعبي :
كيف يعالج الطبيب المريض وهو مريض ؟
Royal430@hotmail.com