من الذي اخرج الحراكيين من ديارهم وظاهر على اخراجهم، ولماذا خرجوا؟
د. عادل يعقوب الشمايله
30-01-2019 01:52 PM
للاجابة على هذين التساؤلين، علينا ان نتذكر القاعدة التي وضعها العالم نيوتن: لكل فعلٍ ردُ فعلٍ، مُعادلٍ له في القوة ومُعاكسٌ له في الاتجاه. بناءاً على هذه القاعدة، فإن الذي صنعَ الحراك واخرج الحراكيين من بيوتهم هو الحكومة. هذا هو جواب التساؤل الاول.
أما لماذا، فإن الجواب هو، أن الاصل، أن الشعبَ هو مَصدرُ السلطات التي تَتَشكلُ منها الحكومة. والاصلُ، أن تكونَ السُلطاتُ مُستقلةً عن بعضها تماما وهي السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية والسلطة القضائية. والاصلُ ايضا، أنَّ الحكومةَ هي مُجردُ وكيلٍ عن الشعبِ بوكالةٍ قابلةٍ للعزل. هذا يعني أن من حق الشعب حسب رأي الفيلسوف روسو، أن يستردَ من الوكيلِ ما وكله به، إذا تبينَ أن الوكيلَ مُقصرٌ أو غيرُ قادرٍ أو يسئُ إستخدامَ السُلطةِ المفوضة اليه أو يُفسدُ في الارض، وانه كلما جاءت حكومة لعنت من سبقتها تخلصا من المسؤولية.
عندما يرى الشعبُ الاردني أنَّ الحكومات التي توالت على إدارة شؤون الدولة خلال العشرين سنة الماضية، تتبارى في الاهمال والتقصير وزيادة الضرائب والاقتراض الداخلي والخارجي واهدار المال العام واجتراح الفساد بانواعه وتدمير البنية التحتية وبيع الدولة في سوق الباله، وأنها رغمَ كل ذلك، تُثابُ بالجنة، خالدة مخلدة فيها، تتمتعُ هي وذراريها بِمُتعها، مكافأة على كل ما يستوجبُ لها جهنم وبئس المصير. في ظل هذا الواقع، ما هو الخيار الذي تُرِكَ للشعب؟
عندما يرى الشعبُ أنهُ مُمتنعٌ عليهِ أن ينتخب مجلس النواب الذي يُمثله ليراقب الحكومة ويحاسبها ويحميه منها، وان السلطة التنفيذية هي التي تُعينُ النوابَ كما تُعين الاعيان لُتنتجَ مجلس أمةٍ فاقدٍ للوعي والارادةِ والولاءِ للشعب والوطن. مجلسِ هَمُ أعضاءهِ تقاسمُ العطاءات والمنافع والزيارات الخارجية مُقابلَ تسليمِ أختامهم لرئيس الوزراء من اول يوم يُنتخبون فيه، ليُصبحُ من يجلس في مكاتب مجلس الامة مُجردَ اشباح.
عندما يُقدمُ الملك مجموعة من الاوراق النقاشيه ولا تُقيمُ لها الحكومةُ وزناً، وعندما تطوي الحكومةُ بيان التكليف الصادر لها من الملك، وكذلكَ رَدها عليه، وتُرسلهما الى متحف التُراثِ بعد ختمهما بالشمع الاحمر، ما هو الخيارُ الذي بقي مُتاحا للشعب؟
عندما يٌطالبُ الملكُ الشعبَ بالضغط على الحكومة بالتوازي مع ضغطه هو عليها، معنى ذلك أن الحكومة اصبحت بِحُكمِ المُتمردة، على الملك رئيسها، وعلى الشعب سيدها. عندما يطلبُ الملكُ من الشعبِ، وخاصةً الشبابَ، يالانضمامَ الى الاحزابِ ويطلبُ من الاحزابِ الاندماجَ، لتُصبحَ أقل من خمسة احزاب، وتقومُ الحكومةُ بخطوات معاكسه، مثل تشجيعِ مَحاسيبها وأدواتها على تأسيس احزاب وهمية منزوعة الدسم، لتمييع الواقع الحزبي عموما، وتسفيهه في نظر الشعب والدولة معا، فإنها ترتكبُ خطيئة العصيان لتوجهات الملك. عندما تقومُ الحكومةٌ بتخويفِ الشباب والموظفين من الانضمام للاحزاب بتهديد فُرص العمل المستقبلية، فانها ترتكبُ خطيئةً ثانيةً هي إعاقةُ إرادةِ الملك.
وعندما تُحولُ الحكومةُ العشائرَ الى كائناتٍ سياسيةٍ مما يجعلُ من المُستحيلِ التوافق على أي أمر، ومما يجعل "لُعبة رابح خاسر" هي اللعبةُ الوحيدة السائدة، فإن الحكومة تكون قد اقترفت خطيئة إضافية هي تخريبُ مُستقبلِ الاردن، وجودا وليس اقتصادا فحسب.
في ضوء المعطيات التي ذكرت، لم يبقَ للشعبِ من خيارٍ سوى الاصرارِ على إسقاط الحكومة القائمة، والحكومات التالية أياً كان رئيسها طالما أن النهج هو ذاته، واسقاطَ مجالس النواب المُتعاقبة بالتوازي، وتحويلِ الحكوماتِ ومجالس النوابِ الى محكمةِ الشعبِ لِتُصدرَ احكامها، وليُصارَ الى تنفيذها في مقار الحراكات. وفي الوقت نفسه يتمُ إيداعُ تلكَ الاحكامِ في ذاكرة التاريخ الاردني، كشاهدِ على تعذرِ مُحاكمة الحكومات امام السلطة القضائية، لان الحكوماتِ فوقَ القانون. وعندما تُصبحُ الحكومات فوق القانون، فانها تفقدُ شرعيتها. وعندما تفقدُ الحكوماتُ شرعيتها، تَعودُ السُلطةُ إلى الشعب.
كَلمةُ حراكيين، أُطلقها على من يقف على الدوار الرابع، وعلى من يخرجُ في كافة المحافظات، وعلى الكُتابِ في المجالات السياسية والاقتصادية من غير المداحين والمُبررين والمُسوقين لقرارات الحكومة، والناشطين السياسيين الاحرار الوطنيين، وكل من يتذمر في الصالونات والصالات والمضافات.
الاسباب التي اخرجت الحراكيين الاردنيين الى الشوارع والساحات، هي نفسُها التي أخرجت اصحاب السترات الصفراء في فرنسا. إنها غُربةُ الحكومةِ عن الشعب الذي انتخبها: رئيسا للجمهورية ورئيسا للوزراء ومجلس نواب. القاعدةُ الذهبيةُ التي تحفظها الشعوبُ، وترفضُ الحكومات الاعتراف بها هي: عندما تدير الحكومة ظهرها للشعب، سيديرُ الشعبُ ظهرهُ للحكومة. والامر نفسهُ بالنسبة لمجلس النواب وبقية اجهزة الحكومة. إن تفكيك مُمتلكات الدولة وبيعها بشيكات بدون رصيد ، على خطورته، يظلُ اقلَ خطرا من تفكيكِ الشعبِ الى اكثر من الف شعب، ومُطاردة الديموقراطية، مطاردة الثعابين للعصافير.
الحراكيونَ باعتبارهم ضَميرَ الشعبِ والناطقينَ باسمه، لم تعُد صُدورهم قادرةً على بلعِ الاهانة والتعالي من طرفِ الحكومة. لذلك هاهم يخرجون للتعبير عن مطالبهم، ليس من مكاتب مُدفأةٍ ومُكيفة ومُرفهة، ولكن تحتَ اشعةِ الشمس حينا، وزخات المطر احيانا اخرى، في الشوارع والميادين وحتى في "مواقف سيارات مستشفى الاردن" الذي تكرمت الحكومة بابقائه مُتاحا امام الحراكيين. لعلَ الحكومة لا تُدركُ ماذا يحدثُ لِغطأ الطنجرةِ او ابريقِ الشاي عندما تصل محتوياتهما لدرجة الغليان. الحكومة ترفعُ حرارة الفرنِ تحت الطنجرة كُلما ضيقت الخناقَ على الحراكيين، وبذلك، فهي تدفعهم دفعا للتطرف في شعاراتهم وطلباتهم، والغلظة والفظاظة في لغتهم لتتوازى مع عناد الحكومة واعتقادها الخاطئ انها قويةٌ وقادرةٌ على فعل ما تُريد، مُطبقة شعار " قولوا ما تشاؤون وسنفعل ما نشاء". أنا لا اؤيد المُفردات اللغوية التي يستخدمها الحراكيون، بل واستنكرها، وارى أن بامكانهم ايصالُ ذات الرسائلِ بِمفرداتٍ ارقى، وان يتمَ التصويبُ على الاهدافِ الصحيحةِ حتى لا تتشتت قدائفهم. لقد استطاعَ حراكيوا الخمسينات من القرن الماضي إسقاط حلف بغداد عن الاجندة الحكومية باسقاط الحكومات وتصعيب تشكيلها، كما استطاعَ الحراكيون إسقاط حكومة الانهيار الاقتصادي في نهاية الثمانينات، والغاءِ قانون الطواريء والقوانين المقيدة للحريات والاتيان بمجلس نواب شبه حي.
لذلك فعلى الحراكيين أن يُثبتوا وطنيتهم بأن يتوجهوا لاصحابِ الفكرِ من غير المُستَهلكينَ، للاستعانةِ بهم، لتطويرِ طلباتهم وعقلنتها وبرمجتها ووضعها في سياقها الصحيح على مستوى السياسات العامة الرشيدة. هذا يتطلبُ البحثَ والاستقصاءَ الواعي والمُحايد "ما فوق المُحاصصة الاقليمية"، وعدمِ الوقوعِ في شراك اصحاب اليوتيوبات الداخليين والخارجيين، ولا خُطباء المنابر المُتاجرين بالسياسة، الذين أحرقتهم الشمس وهم في طوابير الانتظار للحصول على فُتاتِ المكاسب الحكومية والذين اصبحوا مشهورين بسبب غفلة المُستمعين والمُتابعين. على الحراكين أن يُدركوا أن "ليس كل ما يلمع ذهبا".