على بعد ١٠كيلومترات تقريبا غرب العاصمة عمان وفي حضن الجبال ومحافظة البلقاء تسكن في قلبها مدينة السلط..
ومع ان معظم طُرقها لا تتجاوز الأربعة أمتار ،الا انني لم اشاهد من يُعطل حركة السير ذهابا وإيابا في هذه الأزقة الضيقة، وهذا يدل على ان شرعٌ ونظامٌ وعُرفٌ قد استوطن في تأطير اولوية السلوك في هذه الطرقات ويتساءل المرء ما علاقة ازقة السلط وطرقها وتعامل مواطنيها في سلكها،مع السلط المنشقة الساكنة في بطن جبال البلقاء الراسخة..
السلط والتي سُميت (بسالتوس) نسبة إلى القائد اليوناني الذي فتحها زمن الاسكندر المقدوني وبني فيها معبد للألهة زيوس في منطقة زي التي نسبت اليه.
تشكل مدينة السلط حالة عمرانية متفردة لا تراها في اَي مدينة اخرى، وتأقلم أهالي السلط عبر التاريخ مع اكثر من سبعمائة مبنى أثري يصل عمر بعضها الى اربعمائة عام.
بدأت رحلتي اليوم بالتوقف عند (قهوة المغربي) في السلط،ينتابك على الفور شجن اصحاب الفكر والسياسة المرتادين لهذا المقهى العريق.
في السلط تشعر المرأة بأنوثتها المُفرطة وتقدير الرجال لها، وبالرغم من ان المقهى رجالي الا ان الرجال في الخارج رحبوا بي بحفاوة سلطية، قال كبيرهم وهو يعص على سيجارته بين شفتيه مخاطبا شاباً يبدو ابنه :" قِبْ من هان( تلفظ القاف كالجيم المصرية) : قم وابتعد من هنا.بحز ابتعد) ..خَلك هان يا أميرة اشربي قهوة او شاي، قبل امس زارتنا الأميرة بسمة وانتِ كمان أميرة "
في السلط لا تناقش كثيرا أرح فكرك ونفذ ما يقوله السلطية الذين يعرفون جيدا فكر وثقافة مدينتهم، شكرته وجلست بجانبه، ثم اضاف الرجل الكبير :"هان تتجمع حكايات السلط وزوارها"
ثم نظر الى هاتفي بيدي، وقال:" دشري (اتركي) واطلقك من هالماخوذ الي بيديch:(دعي الهاتف من يدك)، انا بسلوفلك (أحدثك )، هذا العملية(الشارع ) يوديك على وادي شعيب، وهذا الي فوق يوصلك الساحة،ومنها شارع الحمام.لدي جاي(اسمعي جيدا ما سأقوله) بوجهش تسندي الطلعة (تواجهك طلعة اطلعيها) على اليسار الساحة وعلى اليمين شارع الحمام.
تودين تسمعين عن المنقلة (تلفظ القاف كالجيم المصرية )،المنقلة:لعبة شعبية سلطية،في منها العادية والمجنونة،يجتمع فيها لاعبان مع الملعب:قطعة خشبية بها ١٤حفرة بصفان مُتقابلا بكل صف ٧حفر يضع فيها الاعب حصاه،وتبدأ اللعبة مع ٩٨ حصاه وتنتهي بفوز الاعب الذي يجمع اكبر عدد من الحصاه.وهي بالأصل مأخوذة من قديم الزمان من علم الرمل من زمن سيدنا إدريس عليه السلام.
شكرته على القهوة وانطلقت باتجاه الطلعة كما أشار ،على اليسار تصادفك ساحة المنقلة التي بدت خالية في ظهيرة اليوم من الاعبون الذين يجتمعون مساءا ليتباروا في هذه اللعبة، على اليسار وفي شارع الحمام تدخل في ارث تاريخي عريق، محلات بأبواب خشبية،أصوات الباعة:" كوسا،خيار،بكسة بندورة "
وأصوات مرحبة: اتفضلي جاي!
أصوات اطفال تلعب:"نطلع الليلة نلعب !"
حياة كاملة تقطن في حضن التاريخ، مدينة ليست كأي مدينة لا تشبه المُدن الاخرى تشبه سحر يلمسك فتهيم على وجهك سائرا عابراً او ماراً او مغروساً كشجر اللزاب،(شجر العرعر المتعالي،شجرة صنوبرية وهي شبيه الأرز في لبنان)مهما امتدت غصونها بقيت جذورها راسخة في الارض.
وفي اعلى الحارة كنيسة الخضر وهي كنيسة ارثوذكسية تقع في البلدة القديمة،بُنيت على مغارة اثرية في الفترة العثمانية.
ومن هناك انطلقت باتجاه طف يوشع كما يقول السلطية،وهو جبل على أطراف مدينة السلط،وهنالك وبجانب المقام الكبير للنبي يوشع عليه السلام التقيت بالشيخ الجليل الذي قال وهو يجاوب على تساؤلي الذي لم اطرحه بعد، المقام كبير لاننا لا نعرف بأي جزء من المقام هو مدفون، وقص حكايته فقال:"يَشُوعُ بْنُ نُونٍ (عند المسيحيين) أو يُوشَعُ بْنُ نُونٍ (عند المسلمين) وهو نبي من أنبياء الله، اسمه يوشع بن نون بن أفراييم بن يوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم الخليل،
وهو الذي خرج ببني إسرائيل من التيه ودخل بهم بيت المقدس بعد حصار وقتال شديد وعندما صار النصر قاب قوسين أو أدنى، كان وقت العصر قد أزف، واليوم كان يوم الجمعة واليوم التالي هو يوم السبت الذي لا يعمل فيه اليهود وإن دخل عليهم المغيب لدخل بغياب الشمس يوم السبت فلا يتمكنون معه من القتال فنظر النبي يوشع إلى الشمس ودعا ربه بأن لا تغيب حتى يتم استثمار الهجوم وتحقيق النصر وبقدرة الله كان له ذلك. ومن أحاديث الرسول الكريم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أنه رد الشمس بعد مغيبها أكثر من مرة في أكثر من موضع بقدرة الله عز وجل.
ولما استقرت يد بني إسرائيل على بيت المقدس استمروا فيه وبين أظهرهم نبي الله يوشع يحكم بينهم بكتاب الله التوراة حتى قبضه الله إليه وهو ابن مائة وسبع وعشرين سنة فكان مدة حياته بعد موسى عليه السلام سبعا وعشرين سنة."
بين مقامات الأنبياء عليهم السلام يعيش السلطية،ومن طف يوشع وباتجاه المغاريب،هناك سرت بشارع القدس الذي يحاذي جبال نابلس وفي ارتفاعات شاهقة حتى تلامس روحك أطراف السماء مررت بدواوين العشائر السلطية(الرحاحلة، الحيارات، الدراردكة)وتعيش عشائر السلط معاً في وفاق تام تحت حكم شيوخهم وهم جميعا من القبائل البدويّة الاصيلة متمسكين بالعادات ولهجتهم بدوية قحّة الا انهم لا يرتحلون لما في ارضهم من خير, وأهالي السلط على حلف مع البدو في منطقة البلقاء والبلاد المحيطة بها ولا سيما وأنهم أقوياء وشجعان.
في الطريق تجمع لسيارات كثيفة،فتحت النافذة وسالت قالوا:(غدا اقرا( بلفظ الجيم المخففة)) قلت :"ماذا؟"
ضحكوا وقالوا:"غداء تطليعة العروس"
وصلت الى مقام جديد لنبي الله أيوب عليه السلام،الذي كان ينتظرني بعد ان تلقى مكالمة من شيخ مقام يوشع عليه السلام، وترجلت امشي بهدوء شديد، في السلط تراودك نفسك بأن تطير، لربما تبحث عن طريقة لتداري فيها خجلك من ان تدعس بقدمك على هذه الارض الطاهرة،استقبلني الشيخ ابو فراس وأطفاله وانا انظر لشجرة البطم، فقال الشيخ الجليل :" السلام عليكم ورحمة الله وبركاته اهلًا بك في خربة أيوب عليه السلام،كلمني الشيخ نصر انك جاي لهان ،هنا عاش وتوفي نبي الله أيوب عليه السلام، وشجرة البطم التي كان عمرها ٢٨٠٠ عام وهي شجرة أيوب عليه السلام،احرقت بعد ان اصبح الناس تتبارك بها،والشجرة التي خلفك هي ايضا شجرة البطم وهي تثمر بعد شهرين حبات كحبات العنب ،عصير ثمارها يداوي من الالتهابات، هذه الارض الصابرة الباقية كما صبر أيوب عليه السلام على ابتلاءه، هذه الارض المباركة علمت السلط واهلها والعالم بأسره الصبر أسوة بنبي الله أيوب،هنا بيته وهذا مقامه،بعد ان جاء من بيت المقدس بعد ابتلاءه بمرضه والإناء الذي كان يجلس فيه موجود على بحيرة طبريا في فلسطين، وقد جاء بعدها الى هذه الارض وقد كان عليه السلام كثير المال والعيال،فابتلاه ربه بماله وعياله وصحته، ليعلمنا الله تعالى قيمة الصبر، يقول الله تعالى في كتابه الحكيم :" وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 155 – 157]
وكان له زوجة اسمها رحمة، لم يبقى له في ابتلاءه سوى لسان يدعو وزوجة ترعاه فدعى الله تعالى،فأبعده اهل بلده خوفا من مرضه فذهب في شعاب جبال طبريا فنفذ طعامهم وشرابهم فما كان من زوجته من خيار الا ان تذهب فتقص شعرها وتبيعه،فحزن أيوب عليه السلام الذي كان صابرا حامدا شاكرا خجلا من دعاء يطلب من ربه ان يرفع عنه ابتلاءه بعد ان انعم عليه تعالى بمال وصحة وعيال الا ان يدعوه تعالى :"وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ ۖ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَىٰ لِلْعَابِدِينَ (84)
فضرب أيوب عليه السلام بوحي من الله بقدمه الارض فأنفجر ينبوع من الماء فأغتسل وزوجته فعادا شبابا وعادت صحتهم بعد ان مرض ١٨ عام،وعوضه الله بمال وعيال وصحة وعافية.
ثم دعى الشيخ الجليل دعاء لي،لم يبقي هم ولا كرب ولا ضيق في نفسي الا وزال.
اكاد اجزم ان انفاس المرء في السلط تُحيّ القلب وان أكسجين السلط غير الأكسجين العادي الذي نتنفسه وان هواها غير وشروق شمسها ليس كأي شروق، وغروب شمسها ليس كأي غروب ،تجلس قريبا من السماء حتى اذا ما اقترب الغروب غابت الشمس في حضنك وغبت انت في حضن السماء..
لا..لم يتبقى وقت طويل لتغيب في هدوء الجبال، انت هنا اليوم ولست تدري أين تكون غداً..
وعلى صوت الشيخ الفاضل استيقظت؛"طيحي(انزلي)لمقام النبي شعيب عليه السلام)
نعم صدق الشيخ ..انهض واذهب لتعطر أنفاسك بطيب رائحة ما استنشقت اجمل او اعطر منها انزل بهدوء لتصل لمقام النبي شعيب عليه السلام،الذي كان نبيا في قومه(مدين) الذي عُرف ببلاغته وفصاحته عليه السلام، ومن جمال وطيب قوله في حياته عليه السلام ينبعث من مقامه رائحة عطرة طيبة لا تشبه شيء، لربما قليلا رائحة الجنين بعد ان يولد من رحم امه..
ومررت بعد المغيب بتل الجادور مقام النبي جاد عليه السلام .عليهم جميعا صلوات الله واتم التسليم ..
في السلط حكايات وروايات وتفاصيل ..ابتهال الحامدين، وهناك على أدراج السلط تتبع خطوات الأنبياء والصالحين ، في السلط قُبَلُ الفرح وابجدية الحياة ونقش العمر الجميل، وشم السيدات وعتاباتهن، محبة الأمهات وعطر الجدات، (خلقة وجبة ) السلطيات، شبر وعقال رجال السلط،تاريخ الصخور المعكوسة المغروسة في الجبال، أصوات المأذن وأجراس الكنائس
في السلط من في السلط.. لا ارى في السلط الا انت