النسخة الأخيرة من العفو العام
ماهر ابو طير
27-01-2019 12:35 AM
تفیض السجون بمن فیھا، وآلاف السجناء یعیشون وضعا صعبا، فوق وجود أكثر من مائتي ألف مطلوب، وبعضھم خارج الأردن، وبعضھم یتوارى داخلھ.
اغلب القضایا ذات سمة مالیة، الشیكات، وغیر ذلك، والقوانین التي تسمح بسجن كاتب الشیك إذا لم یدفع، ھي ذاتھا التي تعیده الى السجن بعد خروجھ عبر تجدید السجن، فلا ھو یدفع ولا عائلتھ تعیش ولا یتم حتى منحھ وقتا لیتدبر المال، ولا صاحب المال یسترد مالھ، ولا اماكن في السجون ولا سجون جدیدة.
ھي فرصة لنسأل الحكومة عن حلھا الجذري لملف الشیكات وأثره القانوني، بمعزل عن قصة العفو العام الحالیة، خصوصا، في ظل التراجعات الاقتصادیة، وقد یكون منح كتبة الشیكات بعد وقف ملاحقتھم او اطلاق سراحھم وقتا زمنیا كافیا لحل مشاكلھم المالیة خیرا بكثیر من سجنھم او إعادة سجنھم بما یؤدي لدفع الحقوق لأصحابھا، او الوصول الى تسویات مالیة، او تقسیط المبالغ؟
في السجون وخارجھا، وعبر مذكرات التنفیذ القضائي، لدینا كل نوع یخطر على البال من قضایا النصب الى القتل مرورا بالاغتصاب وقطع إشارة المرور الحمراء وصولا الى المخدرات، والاعتداء على مرافق الدولة، وقضایا القدح والذم ووسائل الاعلام الاجتماعي، والمشاجرات والعنف.
البعض یرید تبییض السجون وتسوید الشوارع، والبعض یرید تسوید السجون وتبییض الشوارع، وھكذا تتصادم الآراء والمصالح والحقوق.
یشتعل الجدل منذ أسابیع حول العفو العام، وقد تسبب بشكل واضح بانقسام كبیر في الرأي العام والمؤسسات أیضا بعد طول انتظار لھذا العفو، ولا نرید ان نقول ان العفو العام طال وقتھ حتى بات لغزا، لان التأخیر بات مفھوما في دوافعھ.
الحكومة قدمت نسخة من العفو العام، مقیدة، وفیھا استثناءات محددة، ما أدى الى ھجوم الرأي العام على الحكومة، معتبرا ان العفو جاء منقوصا وان لا فائدة منھ ولا یحقق غایتھ، كونھ یحرم الآلاف من فرصة جدیدة في ھذه الحیاة.
النواب قدموا نسخة شعبیة من العفو العام تكاد ان تسمى عفوا عاما بلا استثناءات، الا ما ندر، واحرجوا الحكومة والاعیان، وللمفارقة أدت ھذه النسخة الى ھجوم الرأي العام على النواب باعتبارھم یریدون العفو عن المجرمین والقتلة وجماعات المخدرات والذین یعتدون على القانون، في بلد یقول فیھ الجمیع انھم یریدون دولة القانون لكنھم في الوقت ذاتھ یریدون إطلاق سراح من یعتدون على ذات دولة القانون، فلا یحدثك النواب عن منطقھم في اطلاق سراح تاجر مخدرات، مثلا، ویجعلونھ منطقا متساویا مع منطق اطلاق سراح ضحیة مدمنة للمخدرات، وبحاجة الى علاج وفرصة جدیدة!
الاعیان، الذین خالفت لجنتھم القانونیة قرار مجلس النواب، وسوف یجتمعون الیوم، لوضع لمساتھم الأخیرة على القانون، لدیھم اعتراضاتھم أیضا على ما اقره النواب، وسنجد انفسنا الیوم امام نسخة جدیدة من قانون العفو العام، تؤدي الى عقلنة العفو وجعلھ منطقیا، وعلى الأرجح سیتم اعتماد نسخة الاعیان باعتبارھا النسخة الأخیرة التي ستتم المصادقة علیھا.
كیف یمكن ھنا ان نصل الى عفو عام لا یتسبب بغضب كثیرین، سواء من الذین یرفضونھ او الذین یریدونھ، فنحن امام وضع معقد تسبب بھ طول مدة التداول في ھذا الملف، وكثرة الآراء التي دخلت على خطھ، وتناقض المصالح بین الافراد والمؤسسات، من جھة، وبین أصحاب الحقوق الشخصیة من جھة، والمطالبین بھذه الحقوق من جھة أخرى، فوق ما یراه كثیرون بكون العفو العام قد لا یكون مضمون النتائج من حیث كونھ فرصة حقیقیة لتغییر سلوكیات
كثیرین؟!
اھم محددات العفو ھي الا یتم مس مبدأ العدالة والقانون، والا یتم مس الحقوق الشخصیة، وان یمنح فرصة جدیدة في ھذه الحیاة، وعلى الأرجح تحمل العناصر الثلاثة تناقضا جزئیا فیما بینھا، ولیس ادل على ذلك من انقسامات الرأي العام، ونسخ الحكومة والنواب والاعیان التي تناقض بعضھا البعض من حیث فھم كل طرف لمعنى العفو العام.
لا یمكن في كل الأحوال اصدار عفو عام لا یكون عفوا بالمعنى العمیق، مثلما لا یصح ان یكون العفو العام لطمة على وجھ دولة القانون وفرصة جدیدة لكسر القانون تلتحق بكل محاولاتنا الیومیة لكسره في حیاتنا عبر تصرفات مختلفة.
یبقى السؤال: ھل سیقبل النواب تعدیلات الاعیان، ام سنجد انفسنا امام مواجھة جدیدة بین كل الأطراف؟!
الغد