أثار قرار الحكومة الأخير بتعطيل دوام الوزارات والدوائر الرسميّة والمؤسّسات والهيئات العامّة نتيجة الأحوال الجوية السائدة في 17/1/2019 ردود فعل متباينة في الشارع الأردني انقسمت ما بين مؤيد من الموظفين والعمال ومعارض من بعض أصحاب الأعمال، وبالنظر إلى موضوع تعطيل العمال لمدة يوم واحد بحسب النظرية الاقتصادية التقليدية فإن عدم توفر أحد عناصر الإنتاج الرئيسية الثلاث (الأرض، المال، العمال) وهو العمل أو العمال يؤدي إلى توقف الإنتاج.
إلا أن النظرية الاقتصادية التقليدية المرتبطة بالإنتاج والتي ظهرت في القرن الثامن عشر من قبل الاقتصاديين الأوائل مثل آدم سميث قد لا تكون الطريقة الأمثل لأخذ موقف من موضوع عطل الموظفين بشكل عام والعطل الرسمية بشكل خاص، على العكس تمامًا فإن نظرية سلوك الأفراد والمنظمات وعلوم الموارد البشرية وحتى علوم التجارة والأعمال تتطرّق إلى الممارسات الأحدث في إدارة المورد البشري والعمال من أجل رفع إنتاجيته عن طريق العمل المرن والعمل عن بعد، مما ينعكس إيجابًا على الفرد والمؤسسة، فمع التطور التكنولوجي الهائل واتصال جميع العمال تقريبًا بالإنترنت من خلال الهاتف أو الحاسوب الشخصي يمكن للموظفين أداء عملهم من بيوتهم أو أي مكان يرغبون فيه دون القدوم إلى مكان العمل، مما يوفّر المصاريف على الشركات ويزيد أيضًا من حافزية الموظف للعمل.
إن أكثر الأعمال التي يمكن تطبيق مفهوم العمل عن بعد عليها هي الأعمال التي تتطّلب مهارات ومعرفة علمية متقدمة، أو الخدمات التي يمكن تقديمها من خلال التكنولوجيا حيث تندرج هذه الأعمال ضمن أعمال اقتصاد المعرفة الذي تتميز به الدول والمجتمعات المتقدمة ومن هذه الأعمال الاستشارات والبرمجيات والخدمات المتخصصة مثل: أعمال الترجمة والمحاسبة ومراكز الاتصال وغيرها.
إن الأجدر النظر إلى الأمور بصورة متوازنة وليست بنظرة اقتصادية بحتة، فالكثير من الدول الأكثر إنتاجية والأكثر سعادة تبنّت الأولويات الاجتماعية أيضًا كأولوية ضمن سياستها الاقتصادية الحرة، فالدول الإسكندنافية تركز على البعد الاجتماعي بشكل كبير جدًا عند وضع مختلف السياسات المتعلقة بالدولة وسوق العمل، ويوجد أيام عطل رسمية وعطل سنوية عديدة للعمال في تلك الدول قد تساوي مثيلاتها في المملكة أو تزيد عنها، وبالرغم من ذلك لا يتذمّر أحد من أثر ذلك على الإنتاجية، بل إن المرونة المقدمة للموظفين وأيام العطل التي تنصبّ في مصلحة الأسرة والمجتمع هي مصدر افتخار لها لقدرتها على الاستجابة لحاجات الأفراد والأسر في تلك الدول، إن أيام العطلة تعطي فرصة لأفراد الأسرة أن يتقاربوا من بعضهم بدل غيابهم المستمر خلال أيام العمل، وفي ذلك تأثير إيجابي على زيادة متانة العلاقات الأسرية والبنية المجتمعية على المدى البعيد، ومن وجهة نظر اقتصادية أخرى فإن العطل الرسمية يكون لها آثار اقتصادية إيجابية أيضًا قد لا تتحقق أثناء أيام الدوام الرسمي، فالكثير من الدول تسجل معدلات مرتفعة جدًا من السياحة المحلية خلال أيام العطل الرسمية، وأيضًا تنتعش الأعمال الصغيرة في قطاع الخدمات مثل تجارة التجزئة في الأماكن الأقل ازدهارًا مثل المحافظات الأبعد عن العواصم.
وعلى العكس تمامًا فالدول الرأسمالية ذات الطابع الفردي، والتي تركز بالشكل الأعم على البعد الاقتصادي بشكل رئيس تعاني اليوم من ازدياد حالات التوتر والإرهاق بين الموظفين في الشركات، والذي أدى إلى ظهور مدرسة فكرية حديثة تدعو إلى "التوازن بين العمل والحياة"، وهو مفهوم واسع يدعو إلى تحديد الأولويات بين "العمل" من جهة والحياة (الصحة، المتعة، الترفيه، الأسرة، والتنمية الروحية) من جهة أخرى، حتى إن تقرير التنمية البشرية الذي يصدر عن منظمة الأمم المتحدة اعتبر العمل هو ليس فقط الوظيفة، بل يتعدّى ذلك إلى الأنشطة الفردية والاجتماعية غير المدفوعة الأجر، مثل الاعتناء بالأسرة والأطفال، والعمل التطوعي مثل خدمة المجتمع، والأعمال الفردية الإبداعية مثل الهوايات المختلفة كالشعر والموسيقى والرسم.
فحبذا لو تطورت النظرة إلى العمل خارج مفهوم الوظيفة التقليدية إلى مفهوم العمل الأوسع والذي قد تكون نتائجه أفضل للفرد وصاحب العمل والمجتمع، والذي حتمًا سيقلّل من الجدل القائم على يوم عطلة تم تحديده بناء على معطيات ومعلومات عن الحالة الجوية توفّرت لدى الحكومة حفاظًا على المصلحة العامة وسلامة الجميع.