في لندن مرة أخرى. التاريخ واضح الكلام، وضفتا النهر الذي يقسم المدينة، تحتضن الفتيةٌ الذين غادروا اوطانهم غرباً بحثاً عن تدوين آخر للذاكرة، عن خبز وماء وليل شتاء هادىء.
في لندن، أقرأ معهم على وقع النايات الحزين، بعض شذراتٍ من حديث العقل وحديث القلب، نستحضر معاً في الشرفات ذاكرة التاريخ ونستشرف مستقبله، ونقرأ بعض ما تقرأه النخب في بلادنا، الواقعة شرق المتوسط وغربه.
منذ أمدٍ بعيد، لم تفلح السياسة العربية في إحداث تحوّلات في الرأي العام. لم يعد في المقاعد جماهير تنصت ولا منصتون يعون.
قبل الثورة الصناعية الرابعة، كان الناس يتحلّقون حول المذياع وفي مواجهة التلفاز. كان حجم تأثير الخطابات والبيانات العسكرية جارفا. اليوم في ظل اختزال الوقت والجهد بكبسات أزرار، لم يعد في الفضاء محتوى يُسمع ولا يوجد محتوى بأي حال.
تستعر نيران السجالات في البرلمانات الغربية على قضايا الديمقراطية وتحديد المصير. في العالم العربي على امتداده الكبير تشتعل الخلافات وتتأجج على حقوق ضائعة وأساسيات مفقودة مؤطرة بطغيان كبير.
في الغرب، وفي الشرق كذلك، يدين الناس كلّهم للقانون وللدساتير التي اتفقوا عليها. في شرق المتوسط وفي غربه، لا يدين الناس إلّا لمصالحهم على اختلافها وتوسعها.
في كل الدنيا التي أنعم الله عليها بنعم الديمقراطية والحرية والعدل والقانون، يعيش الناس حياتهم كاملة الرفاهية وكاملة الحقوق وكاملة المساواة، وفي شرق المتوسط وغربه، يعيش الناس خارج اللحظات الحضارية؛ على القلق من تأخر الرواتب والقلق من رفع الضرائب والحصار المتين للثوابت الشهرية.
يعيشون قلقين؛ من إخلاء الأرض للطير والهوام والبلّان للوقوف في طوابير للحصول على خبز مدعوم. من أرجوحة العيش المضطرب تتراقص بهم يميناً وشمالا.
يستيقظ العرب، شرق المتوسط وغربه، من أحلام تائهة، ويتفرغوا لممارسة جزعٍ على المستقبل، وصبر على الحياة. ينتضون أقدامهم ويغذّون السير في الطرقات: تائهين، يبحثون عن واسطة لكل شيء، عن جرّة قلم، عن راحة بال يقضون فيها ليل الشتاء الطويل.
يقضي العرب شرق المتوسط وغربه، سحاب أيّامهم في المطالبات وانتظار الفزعات، يحلمون أنهم وسط هايد بارك كبير، يقولون فيه ما يشاؤا، ويحمّلون ساستهم الذين يمارسون الصراخ تحت القباب، مسؤولية انقراض الحمير، والأسباب التي تدفع الشنانير للإكتئاب.
يمضون أوقاتهم في محاولات تجاوز سجنهم الكبير دون فائدة. لقد تعطلت أدواتهم ولا يبدو في الأفق الغائم سوى مطارق، خارجية وداخلية، عملاقة تهمي على رؤوس أحلامهم بضربات غليظة، خصوصاُ أولئك الحالمين بالحرية.
وسط الظلام الذي يغلف عقولهم، تتناهى أصوات التاريخ قادمة من عمقه البعيد؛ أنّهُ غيرُ خليقٍ بالأحلام أن تتحقق بالأحلام. هذا غير ممكن إلّا إذا رُفعت سوية الثقافة، وانعتق الناس من أحلام القطرية الضيقة إلى ميادين العروبة الجمعية الفسيحة.
في شرق المتوسط وفي غربه، أمة ذات تاريخ لكنها دون مستقبل.