العلاقة بین العشیرة والدولة علاقة السھل الممتنع. فتارة تتكامل وظائفھما وأخرى یصعب أن تجد وصفا یساعدك على الفھم والتحلیل، فقد نشأت الدولة في مجتمع كانت تسوده العشائر وتمكنت اجھزتھا من إعفاء العشائر من مسؤولیات الحمایة والملاحقة والدفاع. بالمقابل سلبت الدولة العشیرة بعض وظائفھا المتعلقة بإدارة الموارد واتخاذ القرارات واقامة الأحلاف وغیرھا من الوظائف التي اكسبت الشیوخ نفوذا لا حدود له.
في سبعینیات القرن الماضي استخدم أحد شیوخ العشائر الأردنیة مصطلح ”غطا البدوي“ أو غطاء البدوي لوصف العلاقة بین الدولة والعشیرة قاصدا ان الدولة تلجأ للعشیرة عند الحاجة لكنھا تھملھا عند الرخاء والاستقرار كما یفعل البدوي الذي یتدثر بغطائھ عند البرد ویعود لیبعده عند شعوره بالدفء.
ھذا الوصف دقیق ومعبر إذا ما تتبعنا طبیعة تطور العلاقة بین الدولة والعشیرة. كانت العشیرة العامل الاھم والحاسم في ترسیخ استقرار الدولة وبسط نفوذھا عند التأسیس، والدفاع عنھا في مراحل المد الشیوعي والقومي وظھور التنظیمات الثوریة. ورغم ھذا الدور واھمیته فقد شكلت نزعة المحاصصة والاستحقاق عائقا من معیقات التقدم وسببا في اضعاف خیارات الدولة للسیر بخطى أسرع نحو الحداثة والمستقبل.
ورغم كل ما یجري من حدیث حول الدولة الحدیثة ومجتمع سیادة القانون، بقیت العشیرة الوحدة السیاسیة الأھم والمكون الاجتماعي الأبرز واللاعب السیاسي الأكثر فعالیة والمحدد الأھم لحصول الأفراد على المواقع والمراكز والادوار في البناء السیاسي والإداري للدولة.
في الأردن ما تزال الانتخابات البرلمانیة والبلدیة وحتى النقابیة والطلابیة على أسس عشائریة، وتشكل الحكومات بطرق تاخذ بعین الاعتبار حصص المناطق والقبائل والتشكیلات العرقیة والدینیة والجھویة. ولتكریس صورة العشیرة وعلاقتھا مع الدولة حافظت جمیع قوانین الانتخاب للبرلمان الأردني على مناطق البادیة كمناطق انتخابیة مغلقة یجري الترشح والاقتراع فیھا على اساس عشائري دون أي اعتبار لعناوین الاقامة.
ورغم حرص الدولة على الحفاظ على ھیاكل العشیرة فقد اسھم الخطاب الحداثي الجدید للدولة وممارسات بعض الاجھزة والحكام الإداریین في احداث تغییرات شكلیة على المراكز الموروثة والبنى القائمة ما ساعد على ظھور قیادات جدیدة تنافس القیادات التقلیدیة وتعمل على اضعاف مراكزھا وتأثیرھا. ورغم ذلك فقد بقیت العشیرة ملاذا آمنا لجمیع افرادھا یعودون لھا في الازمات والشدائد ویستجیرون بھا عندما یشعرون بالتھدید ویحتاجون للحمایة.
على الصعید الاجتماعي بقیت العشیرة التنظیم الأبرز والأھم في إدارة المناسبات المرتبطة بالزواج والموت والترقیة واسست غالبیة عشائر الأردن لانفسھا روابط وجمعیات الحقت بھا دواوین ومضافات لتكون العناوین والنقاط التي یلتقي ویلتف حولھا الأعضاء وھم یشعرون بالحیازة المشتركة للرمز والمكان.
العلاقة التاریخیة بین الدولة والعشیرة تشھد الیوم تحولات جذریة تتطلب المراجعة واعادة التعریف فمن ناحیة اسھم السیر باتجاه الخصخصة والتخلي التدریجي للدولة عن ادوار الرعایة الشاملة إلى تراجع اعتماد العشیرة على الدولة وشعور الأعضاء بالغبن والخذلان الذي تطور في حالات معدودة إلى احساس بالظلم والعتب الشدید. بالمقابل تحاول الدولة من وقت لاخر صیاغة وتبني أسس معیاریة للمنافسة والتقدم بعیدة عن ثقافة الاستحقاق والامتیازات التي اعتادت علیھا العشائر الأمر الذي قد یغذي الاحساس بالجفاء والشعور بالتمییز لدى ابناء العشائر.
في مثل ھذه الأجواء ولاستمرار حالة اللاحسم في العلاقة بین الدولة والعشیرة یلجأ البعض إلى استخدام العشیرة كغطاء سیاسي اجتماعي من خلال المبالغة في تبني خطابھا والدعوة لوحدتھا وتألیب اعضائھا للخروج على سلطة الدولة باعتبارھا خصما للعشیرة تتقصد التمییز ضد ابنائھا.
الانتھازیة التي تدفع البعض إلى استنھاض وانعاش روح التضامن الذي تتسم بھ البنى العشائریة اصبح إحدى الظواھر التي تتكرر على مرأى ومسامع الجمیع. التناقض المستمر بین خطاب الدولة الحداثي وممارساتھا العشائریة كانت السبب الأول والأھم في تنامي ثقافة الاستحقاق والتأرجح بین تبني القیم المؤسسیة نظریا والارتماء في حضن العشیرة للحمایة والاسناد.
من الشمال إلى الجنوب ومن البادیة إلى الأغوار یوجد استعداد لدى العشائر لمساندة الابناء إذا ما احسوا بانتقائیة انفاذ القوانین وضعف أو تردد الدولة في تطبیقھ على الجمیع، فبالنسبة للعشیرة ھناك ھویة مشتركة والأعضاء شركاء في السمعة والسمات والتاریخ والمجد.
لذلك، ولكي لا یحدث ما لا نود ان نراه جمیعنا، على المؤسسات ان تكون واضحة وعادلة وحازمة وشفافة وسریعة. (الغد)