في الدين ثمة دعوة الى الانصات، عند تلاوة القرآن مثلا يتوجب على السامعين ان (ينصتوا) ويخشعوا، وعندما يقف خطيب الجمعة على المنبر لا يجوز لجمهور المصلين ان يكسروا حاجز (الانصات) التزاماً بعدم افساد صلاتهم، وبهذا المعنى - وغيره مما يتكرر من دعوات للامساك عن الكلام غير النافع - يكون الانصات عبادة، أضف لذلك ان فقهاءنا وضعوا (الحياء والصمت) علامتين من علامات اكتمال فقه الفقيه وعلمه.
في تراثنا - ايضاً - ما يشير الى المعنى ذاته، فكلما اتسع الرؤيا ضاقت العبارة كما يقول النفري الصوفي، وصمت الانسان دليل على رزانته وحكمته، واذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب، وفي علم الصوفية يخضع (المريد) لتمارين صعبة يتعلم من خلالها (فن) الانصات والصمت، كما ان الصيام عن الكلام كان امتحاناً لأحد الانبياء، وهو في الفلسفة حضور للذات والروح واكتشاف للوجود الانساني، او - بتعبير الجاحظ - بلاغة، حيث السكون والاشارة للمعنى اعلى مراتب البلاغة.
في مجتمعاتنا العربية انتصر منطق (الثرثرة) على منطق الانصات، وتغلبت ثقافة الكلام بأنواعه وأنماطه على ثقافة الاستماع او الصمت، ويكفي ان تتابع ما يدور في فضاءاتنا السياسية والاعلامية في حوارات لتكتشف بأننا ما زلنا فقراء جداً لفقه الانصات، وضحايا لهيمنة اللسان على العقل، ومصابون بهوس غريب يدفعنا لمقاطعة المناظر وتوبيخه واصدار الاحكام ضده حتى قبل ان نسمع رأيه، وقد تنبه احد اخواننا في دولة شقيقة ان ازمة (حوار الطرشان) في البرلمان، فبادر الى انشاء جمعية للانصات اصدرت عدداً من الكتب حول مهارات الانصات واطلقت حملة: (لا تقاطعني) وبدأت بتعليم التلاميذ (فنون) ومهارات الامتناع عن الكلام او (الانصات الفعال).
في و قت مضى من تاريخ البشرية كان النطق علامة تميز الانسان عن غيره من المخلوقات، ثم اكتشفنا ان غيرنا من الكائنات تمارس هذه النعمة وتتقنها؛ ما دفعنا الى تمييز الانسان (بالضحك) ثم (بالعقل) والارادة، لكن الصحيح ان الانسان في جوهره مخلوق (منصت)؛ لأنه لا يمكن له ان يجيد الكلام بوعي الا اذا تعلم (الانصات) ومن أسف اننا - في مدارسنا - نتعلم نطق الحروف قبل ان نتعلم مهارة الانصات، وفضيلة الصمت.. وبلاغة الاقناع عن الكلام حتى كانت قوة اللسان اشد اغراء من قوة الجنان.
اذا سالتني : لماذا تتكرر اخطاؤنا، ولماذا تغيب قيمة التوافق في مجتمعاتنا، ولماذا تفشل حواراتنا، وتتصاعد خلافاتنا، وتتصادم خياراتنا؟ لماذا تراجعنا في الاصلاح السياسي والنهوض الحضاري، ولماذا افتقدنا ما افتقدناه من قيم الاحترام والتفاهم والتعاون؟ سأقول لك على الفور: لأننا نتكلم اكثر مما نسمع، ونسمع اكثر مما ننصت.. لأننا سقطنا في امتحان (الانصات) ولم يعد (لآذاننا) سوى وظيفة (استراق) السمع.. وحتى هذه للاسف نستخدمها في مزيد من النميمة والثرثرة فقط. (الدستور)