كلُّ الأمم تشكلت أساسا على هيكلية عشائرية ثم نزعت نحو القومية العرقية مبتلعةً مفهومَ العشيرة الضيق، وكان الإسلام أول دعوة لإزاحة كليهما لصالح مفهوم الأمة دون إبعاد العشيرة والقومية إذا تضافرا وانصهرا معا لتقوية الأمة لتكون وسطا وشاهدة بمفتاح التقوى، فكان الرسول عليه السلام من بني هاشم أشراف قريش، ونعلم أن قريشا سادت العرب بعنصرين مهمين النسب لنبيٍّ هو إسماعيل عليه السلام ولم يكن عربيا أصلا وصليبةً، لكنها السلالة المكرمة من الله المعبر عنها بالاصطفاء، والآخر هو السلطان الديني (الوثني الذي تحول من بعدُ إلى الإسلام)، وهما اللذان استمرا بعد ذلك من غير تضاد مع جوهر العقيدة، فلو كان الرسول عليه السلام من غير بني هاشم أو من غير بني عبد المطلب فهل كانت العرب تؤمن بنبوته، وهل مساندة أعمامه أبي طالب والعباس، وحمزة - في البدء - كانت لإيمانهم بدين جديد أم لعصبية لم يتفلت منها العربي إلى يومنا.
بيد أن ما يشفع لهم ذلك الموقفَ هو إيمانهم بأن ابن أخيهم صادق أمين من أشراف العرب، وهذان عاملان مُجَرَّبان اشتهر بهما الرسول عليه السلام قبل البعثة مما جعل احترام قريش لأخلاقه مجلبةً للإيمان بنبوته، وفي أشد المواقف حرجا يوم حنين في الدعوة وانفضاض الكثير من الصحابة عنه، وقد ثبت إزاء جمع غفير من المشركين من بني ثقيف كانت دعوته "إليَّ عبادَ الله، أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب".
وبعد موته عليه السلام أراد خلق كثير من الصحابة في سقيفة بني ساعدة التوافقَ على السيادة القبلية؛ لأن الغلبة واقعيا للعدد والعدة، لكن أبا بكر أعادها جذعةً لدورتها الأولى: التقوى والقرب من الرسالة والصُحبة، وأضاف إليها القرشيةَ وليس بني عبد المطلب لأنه لم يكن منهم.
كذلك استمر الأمر في خليفتيه عمر وعثمان لأن العرب لا تدين إلا لهذا الحي من قريش، فأصبحت القرشيةُ شرطا من شروط الإمامة عند جماهير علماء المسلمين، وحُكي الإجماع عليه من الصحابة والتابعين، وبه قال الأئمة الأربعة.
ثم أطلَّتِ العصبية القبلية برأسها بعد ذلك ولم تخفِ شيئا قبيحا منه، تسير أحيانا مع الدين وتلازمه لكنها في أكثر الأحيان تتقدم عليه، ففي صدر الإسلام كانت العشائرية موجودة لكنها تتخلف عن الدين ثم وصل الحال إلى إلغاء الدين لصالح العشيرة وليس لصالح القومية أو القبلية، حتى أصبح الكثير ينصر أخاه عشائريا ظالما ومظلوما معا.
ولتقنين ذلك أصبح القضاء عشائريا والانتخاب لتمثيل الأمة عشائريا والتهنئة عشائرية والواجهات عشائرية والتفاخر عشائريا واختيار المسؤولين عشائريا، فلم يعد للعلماء أو الفقهاء أو لأهل الشرف حتى من أبناء العشيرة نفسها صوت يسمع أو رأي يلتفت إليه، تعبئة الناس بمفهوم سيادة العشيرة وتضخيمها على حساب مفهوم الدولة المعاصرة حالة ساعدت الدولة بكل أجهزتها على رعايتها إيمانا بأن ولاء رأسها أيا كان يعني ولاء العشيرة كلها، وغفلت عن تحول خطير في العشيرة إذ تحوَّل أبناؤها جميعا إلى رؤوس لا طاعة لكبيرهم إلا بما يحقق من مصالح فردية، وبخاصة إذا كان هذا الكبير منغمسا في تحقيق مآربه على حساب الدولة والوطن وأهله.
تحقيقُ العدالة وسيادة القانون لا يمكن أن يسودا في وطن يتنفس عشائريةً، وليست هذا دعوى لتفتيتها بل هي دعوة لحلحلتها بعيدا في أمور تتعالق مع مفهوم الدولة؛ فالمسؤول الذي يخاطب عشيرته مسترجعا أيامها في الغزو حينما لم تكن هناك دولة هو نفسه الذي يخاطب الوطن في لحظة إعلامية، بأن العشيرة لا تحمي المجرمين وقد حمته من قبلُ وهو يقطرُ عشائرية.
الحكومة مطالبة هذه الأيام بتعزيز الحق والصدع به عدالةً وقانونا، وإذا كان الإصلاح لا يقوم إلا بدحرجة الروؤس التي تعفنت بالفساد فلْتُدحرجْ، فصولجان الحق آن له أن يكون ميزانَ الوطن لمعرفة رجاله وسارقيه والمصلح من المفسد، الحكومة به مصدقة قوية عزيزة وليس بأن تُطَئْطِئَ رأسها لِغُزَيَةَ التي قال قائلها دريد بن الصمة ذات زمن جاهلي حينما كان الغزو سبيلا للنجاة والحياة:
وما أنا إلا منْ غُزيَّةَ إنْ غَوَتْ غويتُ وإن ترشُدْ غزيَّةُ أرشُدِ