من ثوب التعليم إلى عباءة التنمية، هل يفعلها المعاني ؟
د. نضال القطامين
24-01-2019 01:16 AM
أغتنم عودة الدكتور وليد المعاني لقيادة التنمية التربوية التعليمية على رأس الهرم في وزارة التربية والتعليم والتعليم العالي، لأطرح التساؤلات التي ترافق مسيرة التعليم العالي في المملكة، في رصد متتابع يرمي إلى إعادة تموضع شاملة، تنتهي بمؤسسات التعليم العالي إلى مآلاتها الوطنية التنموية، على ضوء ما يحكمها الآن من اتجاه واحد لا ينبي عن خروجها من ثوب التعليم إلى عباءة التنمية.
ولعل في تولّي معالي الدكتور وليد وزارتي التربية والتعليم العالي، إشارة إلى أن ثمة تفكير استثنائي، يبدأ بتوجيه الطلبة منذ الصفوف الأولى وحتى مقاعد الجامعة، نحو دراسة تخصصاتٍ توفر فرص عمل واسعة، والابتعاد عن تلك التي ترهن فرص عملها بوهم كبير اسمه مكتب وطاولة، ولعل ذلك يشكّل فرصة تاريخية للبدء بإنتاج سياسة حكيمة تقتلع أسباب البطالة من جذورها.
تتهيأ الجامعات مطلع الفصل الدراسي الثاني، لاستقبال الألاف من الطلبه. ستضاف هذه الأعداد، لأولئك الذين يتلقون تعليما عاليا في هذه الجامعات وفي الكليات التي تمنح الدبلوم المتوسط. في النهاية، سيضاف الجميع لكشوفات التنافس في ديوان الخدمة المدنية، وستمر عقود قبل أن ينتهي انتظار الفرصة الأخيرة في وظائف القطاع العام.
قصدت الدولة، حين استحدثت الجامعات، أن تقوم بالإنفتاح على المجتمعات والنهوض بأدوار متكاملة في برامج التخطيط المجتمعي، والاشتباك الإيجابي مع المعضلات التي تواجه التنمية الوطنية، وما زال هذا القصد يشكل جزءاً كبيرا من أسباب استمرارها وشرعية وجودها.
في نظرة سريعة لواقع التعليم العالي في المملكة، ثمة نواقيس للكارثة تُدقّ دون أذن صاغية. وفي حين لم تقم الجامعات بهذه الأدوار المجتمعية لتسجّل غيابا كاملا في ذلك، فإنها، بصورة أو بأخرى، ساهمت من حيث لا تدري، بالتأزيم وتعقيد الوضع المعقّد أصلا .
إن أول القضايا التي تشكّل تحدياً كبيرا امام الدولة ومؤسساتها، هي البطالة، وفي أول أسبابها، يقفز للواجهة تراكم تخصصات هائلة، في كهوف ديوان الخدمة المدنية، دون بصيص أمل في حصول أصحابها على فرص في التوظيف الحكومي. هذا أول الأخطاء.
وفي الحديث عن تراكم التخصصات الراقدة في غياهب الانتظار، فإن للجامعات دوراً كبيرا ومهما غائبا !
لقد سجّلت الجامعات تراجعاً كبيرا لجهة النهوض بواجباتها المناطة بها، ومؤكد أنني لا أقصد الواجبات الأكاديمية، فلتلك قصةٌ أخرى، لكنني اتحدث عن غياب كامل لبرامج المواءمة بين مخرجات التعليم العالي ومدخلات السوق، وعن الإصرار على تكرار تدريس التخصصات بمعزلٍ كامل عن إحتياجات سوق العمل، والتعامي عن القلق الكبير الذي يسببه مخزون ديوان الخدمة المدنية من تخصصات لا تجد سبيلا للوظائف في القطاعين العام والخاص.
مثلما أتفهّم أن يتجه التعليم العالي في بعض محاوره نحو الإستثمار التجاري، وأعي جيّدا حاجة بعض الجامعات لرسوم إضافية من طلبة يحملون معدلات متدنية في التوجيهي، فإني أتفهم كذلك قيام مدارس خاصة وحكومية بالاستمرار في نهج توجيه الطلبة نحو تخصصات تقليدية، غير أنه واجب على الجميع أن يبدأ مبكراً بالتوجيه والإرشاد نحو التعليم العالي السليم المنسجم مع سوق العمل، وفي ظل توجه الجامعات نحو التوسع في برامج الدراسة الخاصة والموازي، فإن ذلك ينبي عن بوادر تنذر بكوارث محدقة، سيّما وأن التخصصات العلمية لا تقبل تدريس ذوي المعدلات المتدنية، فتتجه بهم الجامعات نحو ما قصدناه من التخصصات التي لا يقبلها سوق العمل، لتزيد الطين بلّ وتضغط على جرح البطالة النازف بيد من حديد.
أيُّ تمادٍ في النهج العقيم تصرُّ عليه مؤسسات التعليم العالي. وأيُّ تلكؤ في البدء بمعالجة اختلالات سوق العمل من جذورها، سواء كان ذلك في إغلاق القبول في التخصصات التي لم يعد لتدريسها مبرر ولا حاجة، أو في التوسّع في التخصصات التي ترحّب بها الثورة الصناعية الرابعة، وفق دراسات منهجية محكمة. لم يعد بوسع هذي البلاد الاستمرار في ممارسة تكديس شباب وبنات في طوابير ديوان الخدمة المدنية، ولم يعد مقبولا أن يعتري الخريجين من كل التخصصات ضعف في القدرات وفي أدوات التواصل ومهاراته، ولم يعد ممكنا إقصاء البحث العلمي عن أولويات الجامعات، وجعله في ذيل قائمة الاهتمامات.
ينبغي أن توفر الأسئلة التالية في هذا السياق، نوافذ تنفتح على حوار كامل حول إعادة انتاج لمسيرة التعليم العالي، تقودها النخب الأكاديمية في المملكة، وأولها، الغياب اللامعقول لمفهوم دور الجامعة في البحث العلمي سواء البحث العلمي التطبيقي المتعلق بالقضايا الساخنه المحلية او الاقليمية المتعددة او البحث العلمي المجرد، وإعتماد الجامعات على الرسوم الجامعية كمصدر وحيد للإيرادات المالية، دون المبادرة لإنشاء مشاريع استثمارية وطنيه تعود بريع يخصص فيما يخصص، للبحث العلمي مثلاً، فضلاً عن تغييب الكفاءات من أعضاء هيئة التدريس، عن النهوض بواجباتهم في المنظومة المجتمعية سواء بالبحث والتخطيط وغيرها.
إذا ما استمرت هذه الحكومة في تبني مفهوم دولة الإنتاج كأحد ركائز عملها، فإن أول ما يجب أن تبدأ به، مراجعة شاملة لمنظومة التخصصات المطروحة للتدريس، ولمعالجة الهوّة الواسعة بين مخرجات التعليم السنوية المقدرة بعشرات الالاف، وبين اتجاهات الشباب الاردني نحو الوظائف الحكومية المحدودة والمتخمة، قبل أن نصطدم بجملة من المحاذير لا تخفى على أحد.