في أحدث تجلّيات الإفلاس السياسي والأخلاقي والوطني الذي باتت عليه المُعارَضات السورية المُتفكّكة, والتي آلت الآن إلى ما وُصِف ذات يوم بـ«الهيئة العليا للتفاوض», وتم تنصيب نصر الحريري على رأسها، بعد أن تقدّمت هيئة تحرير الشام/ جبهة النصرة الصفوف ميدانياً, بِتلقّيها ضوءاً أخضر تركياً، سمح لها بالسيطرة على أكثر من 80% من محافظة ادلب، دون تدَّخل من الجيش التركي المُحتل, الذي أسند إليه ثلاثي استانا مهمة الاشراف عليها كـ«منطقة خفض تصعيد» ثم لاحقاً بعد اتفاق سوتشي/ إدلب بين الرئيسين الروسي والتركي في السابع عشر من أيلول الماضي لإنشاء منطقة منزوعة السلاح بعمق 15-20كيلومتراً، تعهّد فيه أردوغان بإخلائها من العناصر المُتطرّفة وبخاصة هيئة تحرير الشام،لكن شيئاً من هذا التعهد لم يُنفّذ رغم مرور أربعة اشهر على ذلك, بل ذهب اردوغان في معرض لعبة شراء الوقت والمراوَغة, التي يُباشرها منذ رسى العطاء الأميركي عليه لإسقاط الدولة السورية (ومشاركة حثيثة من بعض العرب) فاتِحاً حدوده لكل إرهابِيّي وظلامِيّي ومُجرمي الحرب, للتدفّق نحو الأراضي السورية.
نصر الحريري الذي لا يجد من يُهاتِفه او يَحفل به، وإن كان التقاه المبعوث الدولي الجديد جير بيدرسن في مقر اقامته بالرياض, لأسباب ودواعٍ بروتوكولية, وبخاصة أن هناك من لا يزال يُراهِن (واهِماً) على قُدرة ودور هيئة التفاوض على انتزاع شيء ما في اللقاءات المُقبِلة, والتي دار بعضها في لقاءات سابقة في زمن دي ميستورا, حول تشكيل ودور اللجنة الدستورية, التي ظنّ حلف الأشرار, الذي وقف خلف الحرب على سوريا وفيها, انه قادر على تحقيق ما عجِز عنه ميدانياً وبكل الوسائل والمقاربات القذرة, التي لجأ اليها في دعم فصائل الإرهاب، يمكنه تحقيقه عبر همروجة اللجنة الدستورية العتيدة.
نقول: نصر الحريري خرَج على الناس في مقابلة مع «رويترز» يقول: إن غالبية الشعب السوري تُؤمِن بأن الحل الوحيد للأزمة السورية هو «الحل السياسي». فما الذي «حدَث» كي يخرج هذا الثائر والمقاتِل المزعوم من أجل الحرية, الذي بشَّرنا بان جحافل «الثوار» في طريقها الى القصر الرئاسي وأن أهالي دمشق سيخرجون إلى ميادين وساحات الفيحاء مرحبين بالقادة الجدد الذين سيأخذون سوريا الى معارج الحرية والديمقراطية وتداول السلطة على نحو سلمي, كما هي حال «المُشغّلين» من الدول الداعِمة لثورتهم المبارَكة, وبخاصة من قِبل اولئك «العرب» الذين أَذهلوا العالم بديمقراطيتهم وتعدديتهم وشفافيتهم, وخصوصاً نجاح خطط التنمية وتنويع مصادر الدخل لديهم, على النحو الذي لم يعد يوجَد أي فقير أو معوز, وتتقدّم مناهجهم التعليمية في المدارس, وتتصدّرجامعاتِهم قائمة جامعات المعمورة الريادية, بل انهم يُخصّصون المليارات للأبحاث ودعم العلم والعلماء, وينتهجون نهجاً سلمياً في دبلوماسيتهم دون لجوء إلى العنف أو الحروب أو تمويل الجماعات والإرهاب, او عقد صفقات السلاح المليارية التي لا تنتهي. ما بالك أيضاً أن زعيمة العالم الحُر, هي التي تقود الحرب على سوريا (والإرهاب بالطبع) يُشارِكها في ذلك أحفاد المُستعمِرين القدامى.. في باريس ولندن؟
وبصرف النظر عن الكيفية التي سمح نصر الحريري لنفسه أن يتحدث باسم غالبية الشعب السوري,التي تُؤيّد الحل السياسي للأزمة؟وهي ذات الأغلبية الساحقة التي استهدفها الإرهابيون وأعملوا فيها قتلاً وسبياً وتشريداً وتهجيراً وترويعاً،فإن الثائر والمقاتل المزعوم من أجل الحرية يقول في مقابلة صحافية أخرى قبل يومين:إن إقامة المنطقة الأمنِيّة التركية/الأميركية داخل الأراضي السورية هو أمر إيجابي(..).
فكيف يُمكِن للحل السياسي مَمر وحيد وإجباري لحل الأزمة,أن يتحقق؟ إذا كان المُحتّل التركي بدعم من حليفه الأميركي(الاطلسي دائماً),سيقتطع هذه المساحة الهائلة من الأراضي السورية (32كم عُمقاً بطول 460كم),وهو المُقترَح التركي القديم الذي روّجت له ودعت إليه تركيا,مباشرة بعد ثمانية أشهر من اندلاع الأزمة السورية على لسان أحمد داود اوغلو عندما كان وزيراً للخارجية,وأطلَق عليها وصف «المنطقة العازِلة",لم تكُن قوات سوريا الديمقراطية (قسد)ولا وحدات حماية الشعب التي يُشكِّل الكُرد غالبيتها...قد نشأت بعد؟.
فهل يظن هؤلاء أن ذاكرة الشعوب قصيرة وعلى هذه الدرجة من الضعف,تحول دون استدعاء وقائع سنوات الأزمة؟التي ما تزال معظم أسرارها لم تتكشّف بعد,وما محاولات «التطبيع"عربياً ودولياً مع دمشق الذي يرفضه رئيس هيئة التفاوض نصر الحريري,إلاّ دليلاً ساطعاً على أن من شنّ الحرب على سوريا,يُريد التكفير عن بعض خطاياه وارتكاباته.
نحسب أن مرحلة «التقنّع» قد انتهت,ولن ينفع نصر الحريري ولا بقايا المعارضات مواصلة اللعب على حبل"المُشغِّل"التركي,الذي رَكل اطياف المعارَضات التي استولدها,وخصوصاً حكومة الإئتلاف «المؤقتة».إذ لديه الآن فصيل قوي رهن إشارته,يُسمّى:هيئة تحرير الشام/جبهة النصرة.وللأخيرة حكومتها المُسمّاة"حكومة الانقاذ"التي دانت لها باقي فصائل الإرهاب (ومعظمها ذات منشأ تركي),وها هو البطل الهُمام أبو محمد الجولاني، يُؤيد ويدعم واعِداً في خطاباته ورسائله واجتماعاته,بالمشارَكة في اي خطة تركية لشن حرب على مناطق شرق الفرات ومنبج.وسيكون,كما مرتزقة غزوَتيّ"درع الفرات وغصن الزيتون» في مقدمة جحافل الجيش التركي الغازي,الذي سيكتفي بمشاهدة"سوريين يَقتلون سوريين",فيما هو يُحرّك الدُمى والمُرتزقة,ويُدير المشهد ويَحصُد النتائج,ويحتلّ الأرض العربِية السورِيّة.
kharroub@jpf.com.jo
الرأي