يُعاني الاردنيونَ من كافةِ الاصولِ والمنابتِ أزمةَ الهوية. المُسببُ، هو الحكومةُ التي لم تحاول بنزاهةٍ ومصداقيةٍ، أن تُوجدَ جامعا مُشتركا يوحدُ ما بين من أصبح يُطلقُ عليهم "الاردنيون". جامعٌ مُشتركٌ يعلو على ما عداهُ من الولاءات والهويات الاخرى. جامعٌ يصنعُ شعباً. تكتفي الحكومةُ بدل ذلك بالتحذيرِ بين الفينةِ والاخرى من المساسِ بالوحدة الوطنية، وتُعلنُ بِحدةٍ بالغةٍ، أنّ المساس بالوحدةِ الوطنية خطٌ أحمر. وقد اكتشفَ المواطنون بذكائهم الفطري، خِداعَ الحكومة وعدم جديتها، واصبحوا يتخوفون من كلام الحكومة بَدلَ أن يتفائلوا. فَكلما تكلمتِ الحكومةُ في الموضوع يترقبُ المواطنون خطرا على وحدتهم من الحكومة نفسها.
الوحدةُ الوطنيةُ لا تصنعُها الخُطوطُ أياً كانت ألوانها، ولا الدُعاءُ والتمنيات، كما لا تصنعُها التهديدات. الهويةُ الوطنية تَخلُقها وتُرسخها السياساتُ الوطنيةُ الصادقةُ، وليس المزيفة التي تسعى لتحقيقِ عكسِ ما تُعلنُ تماما. وفي الوقت ذاتهِ، فطالما أن أزمة الهوية موجودة، فإن من الطبيعي أن يَستمرَ القلقُ ويستمر الحديثُ عنها. يترتبُ على ذلك، أن الازمة ستُصبحُ غير قابلة على الاحتواءِ، ناهيكَ عن الضُمور،ِ مالم يتمُ مُهاجَمتُها كالسرطان ومُعالجتُها بالوصفة الطبية الملائمة. وإن التأخرَ عن فعلِ ذلك، مُحاذرَةَ الجلدِ بسوط الاقليمية، أو الحديث عنها بمُداراة واستحياء، وقدرٍ كبيرٍ من المجاملات الكاذبة، إنما يصبُ الزيتَ على النار بدلا من الماء.
ما سأقدمهُ في هذا المقال يُعدُ أولَ تَوصيفٍ شاملٍ وتحليلٍ مُعمقٍ لاسباب أزمة الهوية ومظاهرها وبعض سُبلِ حلها، مما قد يُساعدُ صاحبَ القرارِ أو يضطَرهُ لذلك. هذا التوصيفُ والتحليلُ، يأتي مُخالفا للمعهودِ الذي كان يقتصرُ على تبادلِ القنابلَ بين مكونات الشعب الاردني. القنابل المشحونةٍ بالعواطف والتلاوم والتخوف والاتهامات بالعنصرية البغيضه والحقوقِ المنقوصةِ مقابل التباكي على الحقوقِ المنهوبة. القنابلُ المُتبادلةُ لم تؤد إلا، الى تعميقِ الخلافاتِ وتوسيع التباينات. وكالعادةِ، هناك من ينتفعُ من هذا المشهدِ ويُشجعه. ما سَأذكُرُهُ تاليا تطلبَ جُرأةً في قولِ الحقِ، وتَبصُراً بالتفاصيلِ ومعرفةٍ بالتاريخِ وحياديةٍ لا بد منها ليتوازن الميزان، ووطنيةً تعلو على المصلحةِ الشخصية، لا يتحلى بها حتما مُستشاروا النظام ووصفاءهُ ونُدمائهُ الذين لا تختلف الاستعانة بهم عن الاستعانة بالمُنجمين والسحرةِ. كلاهما، النُدماءُ والجِنُ لا يفهمُونَ بالسياسة ولا بالاقتصاد. وسأبدأ بأسباب الازمة:
- من المعروفِ أنّ الكيانَ السياسي الاردني كيانٌ جديدٌ مُستَحدث. فمائة عامٍ تُعتبرُ فترةً قصيرة في عُمر الدول. ومعروفٌ أيضا، أنّ هذا الكيان قد أُنشأ على جُزءٍ من ولاية الشام التي كانت جُزءاً من الامبراطورية العثمانية. في تلك الفترة التي سبقت إنشاء الكيانِ السياسي الاردني كان تنقلُ رعايا الامبراطورية بين أرجائها مُتاحا، وكذلك حقُ الاستقرارِ والعيش أينما شاؤوا. لم تكن هناك حُدودٌ ولا جوازات سفرٍ ولا فيز. ونظرا لان الاردن يُجاورُ جزيرة العرب "ما قبل النفطية" القاحلة ، وكان وضعهُ الزراعيُ والرعويُ والمائي أفضلَ من وضعِ الجزيرة العربية، فإن موجاتِ الهجرةِ من الجزيرةِ الى الاردن لم تتوقف. وفي ذاتِ الوقتِ لم يتوقَفْ في الاردن كُلُ من جاءه في تلك الهجرات، بل استأنفَ بعضُهم مسيرتهُ الى اجزاء أخرى من ولاية الشام. بمعنى أن الاردنَّ كان ممراً للبعضِ ومُستقراً للبعض الاخر. إضافة الى ذلك، فإن الهجرةَ مِن شَمالِ الولايةِ التي تُسمى الانَ سوريا الى جنوبها الذي اصبح اسمه الاردن، كانت مستمرة ايضا، وإن كانت على مستوى الافراد اكثر منها على مستوى الجماعات، بعضها بحثا عن فرصة جديدة للعيش لمن لم ينجح في مسقط رأسه، وبعضها هربا من مشاكل عشائريةٍ او من ملاحقات السلطات العثمانية. الامرُ ينطبقُ على سكانِ غربي نهرِ الاردنِ التي اصبحت تُسمى فلسطين. فتبادلُ السكانِ بين منطقتي شرقِ النهرِ وغربهِ كانَ ظاهرةً ظاهره.
اذن اصبحَ سُكانُ الارضِ التي تُسمى الاردنُ حاليا، خليطاً مُتجددا من الغُرباءِ، والغُرباءِ الذين ما لبثوا وان اصبحوا أُصلاء، والأُصلاءِ الأُصلاء. ونظراً لغيابِ المفهومِ الوطني، لان السائدَ كانَ هو المواطنةُ والولاءُ للامبراطورية عابرة القارات، لم تكن هُنالك مُبرراتٌ للاندماجِ بين المتجاورين. وكيفَ يُمكنُ أن يكونَ هُناكَ إندماجٌ والمنطقةُ كانت ساحة للصراع ومسرحا للغزو المُتبادل بين القبائلِ، مما كان يَضطرُ الافرادَ والجماعاتِ الجديدةِ للدخولِ في تحالفاتٍ متقلبة معَ أطرافِ الصراعِ والغزو.ومم يؤكد ذلك نشؤ اربع حكومات مستقلة في الاردن بعد سقوط الدولة العثمانية، انتهت بدمجها قسريا في امارة شرق الاردن برئاسة الامير عبدالله.
إضافة الى ما سبق، فإن من الجدير بالمعرفة، أنّ الكيان السياسي الذي أُنشأ عام 1921 لم يكن كيانا سياسيا أردنيا، بل، من وجهة نظر الامير عبدالله بن الحسين، نُواةً لكيانٍ عربي يَستأنفُ حُلمَ الشريف حسين في المملكة التي تفاوض عليها مع الانجليز ثم حرموه منها. لقد سُمي الكيانُ السياسي: إمارةُ شرق الاردن. ولقد فهمت الكيانات السياسة العربية المجاورةُ التي كانت قائمة كمصر اولا، ثم سوريا والعربية السعودية والعراق بعد استقلالها، المدلول الاستعلائي، والغايةَ التوسعيةَ للامير كما فهمته وتخوف منه الانتداب الفرنسي لسوريا ولبنان من قبل. ولذلك نَاصَبت تلكَ الدولُ، الاردنَ، أو بالاحرى النظامَ العداءَ، ومحاولة الرد المعاكس بالاضعاف والاحتواء. لقد كان واضحا أن إمارة شرق الاردن بقيادة الامير عبدالله بن الحسين كانت مُجردَ نُقطةَ تجمعٍ وتجهيزٍ للانطلاق. وهي بهذا، لا تختلفُ عن نظرة الصهيونية لفلسطين على أنها نُقطةُ التجمع والتجهيز للاستحواذ على الحدود الطبيعية للحُلمِ الصهيوني التي تشمل ما بين النيل غربا والفرات شرقا. وهذا يُلقي الضُوءَ على التنافس المُستتر وغير المقصود بين المشروعين الهاشمي والصهيوني وكأنهما نقيضان. وهذا ما "قد" يُفسرُ التخوفَ على بقاءِ النظامِ الهاشميِ في الاردن بُعيدَ تنفيذِ صفقةِ القرن، ويُفسِرُ التخريبَ المُتعمدَ للاقتصادِ الاردني وللبنية التحتيةِ وبيع ممتلكات الدولة.
تَطلبَ تحقيقُ الحُلمِ الهاشمي عقب انتصار الحلفاء وهزيمة العثمانيين، توطينَ من انخرطوا مع الثورة الهاشمية مُنذُ بدايتها، ودمجهم في أجهزة الكيان العسكرية والمدنية لتعزيزِ البعدِ القومي لقيادة النظام. كما تطلبَ، استقدامَ مُهاجرينَ أخرين مُوالين له من سوريا ولبنان ومصر والعراق، لتولي الوظائف الحكومية، التي قَدرَ أنَّ السكان الاصليين من أبناء القبائل لا يصلحونَ لها، أو لا يُريدُ هو لهم ان يُشاركوا فيها حتى يظلوا بعيدين عن السياسة، وحتى يبقى حُلمُ الاستقلالِ والكيانِ الحُلم، فوق رؤوسهم وليس داخلها. إضافة، أنه كان يُخططُ لتحويل المهاجرين الذين إستقدمهم أو استقبلهم او سبقوه، إلى أدواتٍ لإنشاء الكيان الاكبر من خلال تواصلهم مع جذورهم في المحيط. لم يقتصرِ الامرُ على إستبعادِ أبناءِ القبائلِ عن المواقع الحكومية، بل امتد ليشمل حرمانهم من الحصول على الوكالات التجارية، وحرمانهم من الحصول على حصة من الاراضي الاميرية في العاصمة وما حولها، التي اصبحت تُمنحُ للقادمين الجدد، لتعزيزِ بُعدهِ العشائري المحلي الذي لم يَكُن في وضعٍ مُنافسٍ للقوى العشائريةِ الرئيسية الاردنية. تيارُ الهِجرةِ المُعزِزِ، المُستَهدَفِ من النظامِ لم يتوقف لحد الان، ولكنْ تباطأ سريانهُ في مفاصلِ الدولةِ رغم حُضورهِ المُمَيزِ والظاهرِ والمؤثر.
بعد النكبةُ الفلسطينية الاولى عام 1948. تمَّ فرضُ الوحدةِ بين ما اصبح يُسمى الضفتين. أُلغي مُسمى امارةُ شرق الاردن قانونيا او واقعيا واستبدلَ بالضفة الشرقية. والغي مُسمى فلسطين واصبح يُطلقُ على ما تبقى منها الضفة الغربية من الاردن، أي من نهر الاردن. كانَ الغرضُ من فرضِ الوحدةِ، وتجنيسِ المهجرين الفلسطينين بالجنسية الاردنية تعويضُ النظام لنفسهِ عن خسارتهِ لحُلُمهِ الاكبر، فقد حصل على إضافة في الارض والسكان. وبضياعِ الضفة الغربية بعد النكبةِ الثانية، أصبحَ التعويضُ يتمثلُ بالدور. اذ اصبح للنظام الهاشمي دورٌ سياسيٌ في إدارة الصراع العربي الصهيوني الظاهري، وخاصة من خلالِ إعطاءهِ الوصاية على ما يسمى المُقدساتِ، التي يتنازعُ عليها الفلسطينين واسرائيل، ثم تحولَ الى شريكٍ للسلطة الفلسطينية والانظمة السياسية العربية المؤثرة، في إدارة تصفية القضية الفلسطينية التي تنتظرُ نهايتها ودفنها باعلان صفقة القرن.
ما يعنينا هنا، أن الهزيمتين تسببتا بِهجرةِ عشرات الالاف من الفلسطينين الى الاردن. ورغمَ مٌرورِ سبعينَ سنةً على النكبة الاولى لآ زالت الحكومة تتستر على الارقام الحقيقية للمهجرين الفلسطينين للاردن. مما اتاح المجالَ لتداول أرقامٍ تقديريةُ تخضعُ للمبالغات التضخيمية أوالتنقيصية، والتي طالما قُدِمتْ كَمُبرراتٍ لحُلولَ تأمُريةٍ على القضية الفلسطينية، التي من بينها حلُ الوطنِ البديلِ، وحلُ المملكة المتحدةِ وأخرها الكنفودرالية.والحلول الثلاث تحمل أسماء تؤكدُ تَعمدَ طمسِ الشخصية الاردنية والهوية الاردنية كما حدث عند تسمية "أمارة شرق الاردن" الفضفاضة، وعند اختراع اسم الضفة الشرقية والضفة الغربية. هذه الحلولُ جميعُها تُمثلُ في نظر الكثيرين وخاصة من الفلسطينين، خِدمةً للمشروع الصهيوني في فلسطين وفي المنطقة العربية. ولتسهيلِ تَحققِ أيٍ من تلك الحُلولِ التأمرية، يتواصلُ تسهيلُ النزيف البشري الفلسطيني الى الاردن، يُرافقهُ إغراءاتُ الهجرة الى شتى بقاعِ المعمورة. المهمُ تفريغُ فلسطين من اهلها.
أدت النكبتان الى احداث تغييرٍ كبير وجذري في تركيبةِ سُكان الاردن. ثم أتت الهجرةُ العراقية المؤقتتةُ الدائمة، فالهجرة السوريةُ المؤقتةُ الدائمة ولكل منها تأثيره. وعلينا أن لا نَغفَلَ عن هجراتٍ أُخرى مثل هجرة الشراكسة والشيشان والاكراد واليمنيين وحتى الليبيين.
يجبُ أن لا يُفهمَ مما سبق ذكرهُ، أنني ضدُ الهجرة من حيث المبدأ، بل على العكس تماما. فانا من مؤيدي الهجرة والتنوع. لان المجتمعاتِ المُتنوعةِ تكونُ أوسع واغنى ثقافةً واكثرَ وعياً. واقصِدُ بالثقافة: أنماط اللباسِ والطعام وهندسة البناء والعادات والتقاليد والتشريعات، واللغة والادب والموسيقى والرقص والاذواق عموما . المُجتمعاتُ الراكدةُ لا تُنتجُ حضارةً راقيةً، بلْ حضارةً مُتخلفةً مُتآكلة. ما أريدُ التنبيه له، أنه حتى تكونَ الهجرةُ مَصدرَ منافع وإغْناء، فانها يجبُ أن تكونَ مُقننةً، وأن يكونَ هنالك برنامجٌ وطني كفؤ للصهر والدمج والتوطين وصولا للمواطنة الكاملة. أما أن يَحبِسَ كُلُ مُكونٍ نفسهُ في شرنقةٍ مُنفصلةٍ ويستغلَ كل طاقاتهِ لتسميكِ جُدرانِ العُزلة وتوظيف الحُراس على ابواب الشرنقة، وفي نفس الوقتِ يُطالبُ بالحصولِ على كافة حقوقِ المواطنة، فأن هذا نقيضُ الهويةِ الشاملة. بقاءُ المكونات كما هي غيرَ متجانسة ولا مُوحدةٍ لا يختلف عن طبيخ الشحادين، تعافهُ الانفسُ الكريمةُ، وليسَ هُناك حصانةُ من مضاره. كما أن الترحيبَ بالتنوع والتجددِ في الدماء يجب ان يكونَ خاضعاً لشرط اساسي غيرَ قابلٍ للمساومة، وهو ان لا يتحول السُكانُ الاصليون وهم سكان المنطقة الجغرافية عندَ رسمِ حدودهِ الجغرافية وأنشاءِ الكيان السياسي عليها تحت مظلة الانتداب، الى اقلية عددية. هذا ليس عدلا وهو يُخالفُ كافة تشريعات الهجرة المُطَبقةِ في الدول المتقدمة حتى تلكَ التي تتبعُ سياساتِ تشجيعِ استقدام ألمُهاجرين. إن التعدي على هذا الشرط يجعلُ السكانَ الاصليين في موقفٍ دفاعي شرسٍ لا يُريدونهُ، بل ويبغضونه، ولكنَ الحفاظَ على البقاءِ غريزةٌ نباتيةٌ وحيوانيةٌ وبشرية، بل وفريضةٌ انسانيةٌ ودينية.
إضافة الى ما سبق، ظَلَ تكريسُ وتعزيزُ البعدِ العشائري والتنازع القبلي تطبيقا لسياسة فرق تسد منهجا مستقرا. وبالرغم من مرور قرنٍ على أنشاءِ الكيان السياسي الاردني، لم يتغير شئ على الخارطة العشائرية، من حيثُ النزاعاتِ الظاهرةِ والمستترة، واستحواذ القبائل على ولاء افرادها على حساب الولاء للدولة، بل إن دورها قد تم تحويله مؤخراً، من مُجردِ "تموين الجيشِ بالقوة البشرية" ليُصبحَ الرافعةَ الرئيسيةَ لتولي كوتا القبائل من الوزاراء والمدراء العامين وكبار رجال الدولة. ومن هذه القبائل وباسمها، اصبح يتمُ اخراجِ مسرحية انتخاب مجلس النواب، واختيار اعضاء مجلس الاعيان. حتى السلطة القضائيةُ لم تعُد بمنأى عن التأثيرِ العشائري في اختيار القُضاة وتولي المناصب القضائية. أذن فالمشهدُ يُنبيء بتواجد قبائلَ يحكمها مجلسٌ اعلى لشيوخ القبائلِ، يُطلق عليها الدولةُ الاردنية. هذه السياسةُ المتصلةُ الحلقات، حالت لحدِ الان دونَ تكّونِ شعبٍ اردني بالمفهومِ المعاصر والمدني والمتحضر لكلمة شعب.
في ظل هذا التنوع الذي لا يستطيع أن يُنكرهُ أحد، وفي ظلِ مناخ أميلَ الى التشظي الارادي بسبب الذكريات التاريخية الجاهلية قبل نشوء الدولة، والتنافسِ بل والتناحرِ على المكاسب من النظام السياسي المُحدَثِ الذي أيقنَ أن بقاءَ هذا التنوعِ مُتنوعاً ومُجزأً، هو عاملٌ من عواملِ بقاءهِ هو، يستحيلُ أن ينشأ ذاتيا وتلقائيا شعبٌ اردني متماسك يكون أحد مفردات دولة مدنية.
وإن من المهم أن أنوه الى إنّ التشرذُمَ في مكونات المجتمع الاردني، بل والتناقض بين تلك المكونات ليس ناجما عن التنوعِ البشري وحدهُ، وانما هناكَ ما هو أخطر. إنه التشرذمُ والتناقضُ الفكريُ والدينيُ والمذهبيُ والحزبي. فعلى الرغم من مُضي مائة عام على نشوء الدولة، وعلى الرغم من التوسع الافقي والعمودي في التعليم، وزيادة الوعي العام، الا أن الكيان السياسي قد أفشلَ ببراعةٍ آثمةٍ، كُلَ مُحاولاتِ تَشكلِ "كيانٍ لفِكرٍ سياسي أردني مُستقل"، مفضلا ترك الساحةَ لعبث الاحزابِ العابرةِ للحدودِ، خاصة الشيوعية والبعثية بفرعيها والاحزاب الاسلامية. تتنازع عليها وتتوازعها. وهذا يعني أن "حزب الوطنية الاردنية" ظل هو الاخطرُ على النظامِ في نظر النظام، من تلك الاحزاب. تِلكَ الغابةُ من التياراتِ الفكرية والسياسيةِ والدينيةِ وما نشأ عنها من تشوهاتٍ تنظيميةٍ وسلوكيةٍ، أدخلت الاردنيين من شتى المنابت والاصول في متاهةٍ أكثرَ تعقيداً وخطراً من متاهة الاصول والمنابت.
واخيرا، لا بُدَ أن أُشيرَ هنا الى بعضِ مظاهرِ التنافرِ بين مكونات الشعب الاردني التي تؤكد أزمة الهوية:
هناك اقليمية الهوية. فالشمالُ هوية، والوسطُ "البلقاوية" هوية، والجنوب هويةٌ او هويتان. وفي داخلِ كلِ هوية من الهويات الاربع، هناك عشرات الهويات القبلية المتناحرة على المصالح والمكاسب وخاصة التعيين في الوظائف في القطاعين العام والخاص. عندما يجلس الشماليون مع بعضهم يشعرون بانجذاب ووجود خصائصَ تُميزهم عن بقية المناطق الاخرى. ولا يخلو الحديث من العدائية والتشنيع على الغير. وعندما يتولى شخصٌ منهم منصباً حكوميا يكونُ همهُ الاول هو أن يحتكر التعيينات والترفيعات لابناء الشمال. ولكنه يعطي اولوية الاحالات على التقاعد لابناء المناطق الاخرى. هذا يحدثُ في الجيش والاجهزة الامنية الاخرى على حِسابِ كفائتها واقتدارها، كما يحدثُ في الجهازِ المدني. التوجهُ والتنفيذُ لا يختلفُ اطلاقا عند البلقاوية والكركية وبقية مناطق الجنوب، ولا يُشككُ في ذلكَ الا مُغالط. نفسُ الامرِ ينطبقُ على الاخوان المسلمين ولكن بشكل أكثرَ تشدداً وإحكاماً وبمنهجيةٍ مُحددة الاهداف والوسائل هي منهجية التمكين. فهم لا يُمكن ان يُعينوا غيرهم في أي موقع يحتلوه، ولا يتصورون ان ينتخبوا غيرهم في الانتخابات النيابية ومجالس النقابات وغرف التجارة والصناعة واتحادات طلاب الجامعات.
والموقفُ نفسهُ يُتهمُ بهِ المسيحيون، وإن كان في ذلك مبالغةً لان عددهم قليل لا يسمحُ باتباع منهجية التمكين. الفلسطينيون من جهتهم يُعطونَ الاولوية للفلسطيني، واذا لم يجدوا، فان الاردني لا يأتي الا في آخر قائمةِ البدائل. هذا يتم في البنوك والشركات والمدارس والمصانع. الاردنيون يُمارسون نفسَ التمييزِ في المواقعِ المحدودةِ التي تخضعُ لنفوذهم، خاصة في الاجهزة الامنية وبعض الدوائر الحكومية. السوريونَ والشركسُ لا يحيدون عن هذا النمط من الممارسات قيدَ أُنمله. هناك اقليمية سلبية في الاغاني وفي الرقص في الحفلات والاعراس، واقليميةٌ في الرياضة وفي الزواج وفي الجيرة، وحتى في إعطاء العلامات في المدارس والجامعات وتوزيع المراكز الاكاديمية وهذا قمةُ العيبِ والتخلفِ ومُقدمات التحلل. هنالك قبلية واقليمية ومذهبية دينية بل وتطرف ديني. هذه مجردُ نماذجَ لمظاهرِ الشرذمةِ التي تجعلُ من التنوع مُستنقعا بدل أن يكونَ حديقةً غَناء.