لا زالت تمارس أمي عادة عمرها 30 عاما.. في بيت الطين الغربي بعدما تنهي عملها اليومي..كانت تسند راديو الــ''ناشيونال''، بسماعتيه المدورتين و''بأنتينه'' المكسور من المنتصف ، ذلك المستطيل المزنر بمطاطة سروال قديمة وزر التسجيل الأحمر..لم تكن تضمن له مكانا أأمن من الشباك لتحميه من شغبنا، وعن تشويش المحطات الأخرى، فقد كانت تسنده على الحافة العميقة.. قرب ''الهاون'' و''مكعبات النيله'' محققة أنقى إرسال ممكن..
بعد ان تصلي ''الضحى''، تتناول مسبحتها المئوية، ثم ترجع ظهرها الى جدار الطين وتمد رجليها باستراحة محارب.. موجز انباء العاشرة صباحا هو الذي يشدها دون باقي المواجز،كنت اسمع بشكل يومي أسماء زعامات سياسية كلها رحلت الآن، وعمليات استشهادية نوعية وموجعة للعدو، كما كنت اسمع كثيرا عن صبرا وشاتيلا..وكنت اعتقد انهما شقيقتان من لحم ودم فاكتشفت لاحقا انهما شقيقتان من دم ودم ...كان الخبر عن فلسطين له وقع، يشبه كثيرا رائحة البرتقال في أول موسمه، شهي وغال...
فور انتهاء الموجز،كان يتبعه عزف مميز على القانون..حتى اصبح هذا العزف..شارة ثابتة لبرنامج '' الوفيات'' اليومي..بعدها يبدأ المذيع بصوت متزن '' انتقل الى رحمته تعالى ..فلان الفلاني ..عن عمر يناهز ال87 عاما وسيشع جثمانه بعد ظهر اليوم من مسجد كذا الى مقبرة ام الحيران''...فتقوم امي بانزال حبة من مسبحتها..ثم يقول المذيع انتقلت الى رحمته تعالى ''فلانة الفلاني ..عن عمر يناهز كذا وسيشيع جثمانها الى مقبرة سحاب ...الخ'' فتنزل امي حبة اخرى من مسبحتها المئوية ..وهكذا حتى يختم المذيع أسماء جميع المتوفين قائلا ..''انا لله وانا اليه راجعون''..فتقوم امي بإغلاق الراديو ..ومن ثم احصاء عدد خرزات الموتى اللاتي سقطن من مسبحة الحياة...ثم تستأنف عملها الذي لا تنتهي وفي قلبها حزن على فلانة التي التحقت بكوكبة أرامل البلدة، او ذاك الذي تركته فلانة وحيدا..
الآن .. لا يطيب يومي، الا عندما أمد سلك الراديو بالقرب من امي، وأفتح لها على برنامج البث المباشر تمهيدأ لاستماعها لموجز العاشرة وأخبار ''الوفيات''..ثم أشرب من يدها فنجان قهوة سادة والجريدة مفتوحة على صفحتيها ..وقلبي مفتوح على صفحتيه أيضا...أجدها تحفظ اسماء مندوبي الاذاعة، والناطقين الاعلاميين في شركات الكهرباء والمياه، وكل اسماء المذيعين القدامى والجدد ..وليس سرا ان قلت أن امي منحازة للأستاذ الكبير محمود ابو عبيد، لتعليقاته الطريفة يوم الجمعة، لقراءته السليمة للأخبار لا سيما عندما يشكل كلمة ''أمس '' فيلفظها مجرورة مع نهاية كل خبر ..كما تنحاز لصوته المتاني ولفظه الصحيح لأسماء العائلات الأردنية وأسماء القرى النائية...
@@@
بقي ان اقول أن أمي منذ ثلاثين عاما إذا ما فقدت ضبط ابرة الراديو على عمان..تضيع ويضيع يومها، وتتهمني وأولادي بشكل مبطن بأن احدنا ''لعب بالراديو''..لذلك علي ان ابقى قربها على أهبة الاستعداد لأي طارىء أو تشويش لأعيد ابرة الراديو كما كانت..
أنا مثلك يا أمي ..ان لم اضبط (عمان) على نبضي كل صباح .. اسمع وشيشا من العواطف و ضجيجا من العواصم ...فأضيع ويضيع يومي...
ahmedalzoubi@hotmail.com