حدُّ الأربعينَ .. نهايةُ الشعريةِ أم بداية النبوَّةِ
أ.د. خليل الرفوع
12-01-2019 11:28 AM
استشهدُ ببيتٍ للشاعر سُحَـيْـم بن وَثِـيـل بن عمرو التميمي، وسحيمٌ هذا من أجمل العرب وأوسمها حتى قِـيْـلَ : إنه إذا دخل مكةَ المكرمة تقَـنَّـعَ مخافةَ أن تصيبَـه العينُ ، وهو من الشعراء المخضرمين الذين عاصروا الجاهلية والإسلام فقد عاش نحو مئةِ عام ، وسحيم تصغير وترخيم من السُّحْمة ، وهو السواد ، وأما وثيل فهو : الليف أو الحبل الضعيف ، والبيت هو :
وماذا تبتغي الشعراءُ منِّـي ... وقدْ جاوزتُ حدَّ الأربعينِ
وقد استشهدَ به كثير من النحويين؛ لأن النون فيه مكسورةٌ حسب رَوِيِّ القصيدة، فجُـرَّتْ بالكسرة، ولم يُعَامَلْ معاملةَ جمع المذكر السالم الذي تكون نونُهُ مفتوحةً وهو الأكثر شيوعا.
وقيل: إن كسرة النون هنا لغة من لغات العرب ويظهر لي أنها كُسِرَتْ لضرورة القافيةِ والرويِّ معًا، ويبدو من خلال البيت أن سنَّ الأربعينَ هي سنُ أُفَوْلِ التجربة الشعرية واكتمال النضوج الفكري والعاطفي للشاعر ، فبعد هذا العمر يميل للاستقرار والتوازن النفسي فما يريد أن يقوله شعرا قد قاله من قبلُ ، فيغدو القول الشعريُّ مُعَـارًا أو مكرورًا ولعلَّ بيتَ سُحَيْمٍ يذكرنا بآية قرآنية يتجلَّى فيها حدَّ الأربعين باعتباره خطًّا دقيقا فاصلًا ما بين حياتين متضادتين يُـفْـتَـرَضُ أن يكونا كذلك ، يقول الله تعالى " وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا ۖ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا ۖ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا ۚ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ۖ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ" (الأحقاف15).
ويبدو من الآية الكريمة أن سنَّ الأربعينَ هو سن الاكتمال الفكري والنضوج العقلي الذي يجعل الإنسان أكثر اتزانا، فيقبل على تذكُّر نِـعَـم الله عليه ويعمل الصالحات استعدادا للآخرة ويسعى في إصلاح المجتمع الذي يعيش فيه ، وفي هذا العمر يشعر الإنسان بأهمية تنشئة أولاده وإصلاحهم والخوف عليهم من الانحراف الأخلاقي وقد أسلم وجهَه ومَنْ اتبعَه لله ، وفي الآية إشارة إلى الخط الفاصل بين حياتين متكاملتين وهو قوله : حتى إذا بلغ أشدَّه ، ولعلَّ هذا المبلغ هو سن الأربعين الذي ذكره الله في آيتين في وصف يوسف وموسى عليها السلام ، ففي يوسف قال الله تعالى :" ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين " (يوسف 22) ، وفي موسى:" وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَىٰ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ "( القصص 14) ، وزيادة الاستواء في وصف موسى في رأيي دلالة على استوائه في القوة وهو المعروف بأوصاف الشدة والغضب حينما يرى انحرافا من قومه أو من آل فرعون وقد خاطبهم بقوله " يا قومي لمَ تؤذونني"(الصف 5) ، فسن الأربعين هو سن النبوة عند النبيين ، وهو كذلك عند رسولنا مـحـمـد عليه السلام ، فقد تنزل عليه الوحي وكُلِّف بالرسالة في عمر الأربعين مما يعني أنه العمر الذي ينضج فيه العقل والجوارح ولا يعني هذا بالنسبة للأنبياء إلا الاستعداد التكويني لتقبل الرسالة وتبليغها ، ويستثنى منهم يحيي وعيسى عليهما السلام اللذان وُلِـدا نبيينِ ببشارةٍ من الله.
فالتوافق بين التحديد الشعري والقرآني لسن الأربعين ، هو توافق بين رؤيتين متوافقتين في المعنى والمبنى ، ولا غرابة في ذلك فقد تنزل القرآنُ على سَـنَـنِ العرب في التعبير، فلا اختلاف بينهما في الأسلوب والبناء اللغوي ، وهذا ما أريد أن أصل إليه في هذا المقال ، فالشعر كان قبل الإسلام وبعده علمَ العرب ، وفيه سكبوا عواطفهم ومشاعرهم وتجاربهم وآمالهم وإنسانيتهم ، وهذا يعني بالضرورة أن الشعر الجاهلي كان موجودا في الاستعمال اللغوي قبل نزول القرآن الذي نعلم أنه من حيث الوجود غير محدد البدء إذ إنه في مستودع مشيئات الله وهو محفوظ بأمره كذلك .
فسن الأربعين هو الحد الفاصل بين حياتين ، حياة قد ولَّـتْ بما فيها من عنفوان وفتوة ، وحياة مُسْتَأنَفة مبتدؤها العطاء المستمر والتوبة الدائمة والاستقرار النفسي والرعاية الأسرية الدقيقة ومعرفة حق الوالدين بِرًّا وعطفًا متواصلين ، وخلاصة القول ، إن حدَّ الأربعينَ- في أغلب الظن وليس كلُّ الظن إثما - هو نهايةُ شعريَّةِ الشعراءِ لما هم فيه من قَبْلُ من لهوٍ وتزيينٍ للقول ، وتمرد سلوكي فكري رافض يُسْـتَـثْـنى من ذلك قليلٌ منهم ، وأما عند الأنبياء فهو بداية حمل الرسالة والصدع بالتبليغِ بعد أن عُرِفوا بالصدق والأمانة والاستقامة قولا وسلوكا.