النزاهةُ : مَفهومها وعناصِرها وضوابطها
راتب ابو زيد
10-01-2019 03:03 PM
تُعتبر النزاهة مطلبا إنسانيا اجتماعيا، وهي صفةٌ لِمن تتوافر فيه بعض الصفاتِ الحميدة التي تشكلُ قواعدَ الأخلاقِ، والنزاهةُ حقيقة تتكونُ مِن صِفتين رئيسيتين هُما الصدقُ والأمانةُ، فإذا توافرت في الشخصِ هاتان الصِفتان الأساسيتان فهُما دليلٌ على سموِ أخلاقه، وقد عُرِفَ سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام بالصادقِ الأمين، وهما صفتان تتشكل بهما باقي الصفات الحميدة الأخرى، فالصادق الأمين يحكمُ بالعدلِ ويقولُ الحقَ، وإذا كان الرُشدُ نوعاً من أنواعِ الحقِ وجزءاً منهُ، وهو خاصٌ بالعاقلِ وبأولي العلمِ والمُكلفين، ويعني الصلاح والاستقامة، فإن الحُكمَ الرشيد لا يكون إلا من قبلِ الصادقِ الأمين الذي يَحكم بالعدلِ، باعتبارِ أن هاتين الصفتين المكونان الرئيسيان للنزاهةِ، والصدقُ والأمانةُ يؤديان أيضا إلى صفاتٍ حميدةٍ أُخرى، كالانتماءِ والولاءِ وإيثارِ المصلحة العامة على الخاصةِ، فوصَف اللهُ عز وجل الذين تبوءوا الدارَ والإيمانَ بقولهِ (وَيُؤثِرونَ عَلى أنفُسِهِم وَلَو كانَ بِهِم خَصاصَة)، وقد حثت الدياناتُ السماوية على الصفاتِ الخُلقية (بضم الخاء وكسر القاف) فوصفَ اللهُ عز وجل رسولَهُ الكريم بقولهِ (وإنك لعلى خُلقٍ عظيم) .
والصدقُ والأمانةُ يتم اكتسابهما بالتعليم فقال رسولنا الكريم (جئت لأتمم مَكارِمَ الأخلاق)، وعندما استمع الخليفة عُمر رضيَ اللهُ عَنه لقصيدةِ الشنفرة اللامية (لامية العرب) قال علموها أولادكم فإنها تُعلم مكارِمَ الأخلاقِ، ولأن الحياةَ فيها الكثيرُ مِن العلاقاتِ والتعاملاتِ، وهيَ تَحتلُ الجزء الأعظم فيها، لذلك تبرُزُ أهمية الأمانة والصدق في هذهِ العلاقات والتعاملات، فتسعى الدولُ إلى تربيةِ أولادهِم مِنذُ صِغرهم على الأخلاقِ وتُعَلِمَهُم ضَوابطها ، فَتصبحُ جزءاً من تكوينِهم وعقائدِهم، وأيُ تَصرف أو سلوك يخالفُ ما تربوا عليه وتعلموه يلاقي استنكاراً واستهجاناً من الجميعِ..
ومِن الملاحظِ أنه أصبح يَقترنُ مع كلمة النزاهةِ بعض المصطلحاتِ مِثل قِيَم النزاهةِ ومعايير النزاهة، ثم يُدرج تحتها بَعض المفاهيم الأخرى، كسيادة القانونِ والشفافية والحُكمُ الرشيدِ والعدالة وتكافؤ الفرصِ الخ ، وتداخلت هذهِ المُصطلحات وتشابكت مع بَعضها البعض إلى الدرجةِ التي اعتبرها من نادوا فيها بأنها تُشكلُ مَفهومَ النزاهةِ ، وأنها مِن مُكوناتِها وعناصِرها ، فالحُكمُ الرشيدُ ليسَ من عناصرِ النزاهة إنما هو من نتاجِها وأثرٌ من آثارِها ..
إن المعايير والقيم هِيَ في الواقعِ أدواتُ قياسٍ، وقد تكونُ مادية منضبطة أو شخصية يختلف تقديرها من شخصٍ إلى آخر، وقد دَرَجَ العُرفُ على اعتبار هذه المصطلحات (المعايير والقيم) أنها تُمَثلُ مَجموعة القواعد التي تَضبُط سلوكَ أفرادِ المجتمعِ، ومِن جهةٍ أخرى قد يَتم وَضعُ أسس وقواعد وتقنينات تُحَدَدُ فيها سلوكيات الأفراد وتعاملاتهم وحقوقهم وواجباتهم، كما يمكن وضع قواعد لإجراءات أو وسائل للحصولِ على الحقوقِ ولأداء الواجباتِ لأفراد المجتمع، هذهِ الأسس في الواقعِ هيَ ضوابط مادية مَلموسة يُمكن قياسها بِمعايير وقيم ومؤشرات، بينما الأخلاق ومنها الصدقُ والأمانة - المكونان الرئيسيان لمفهوم النزاهة - لا يمكن قياسهما بمدارجٍ وقيم أو معايير ومؤشرات، لأن الصِدقَ والأمانةَ إما أن يكونا أو لا يكونا، فلا تُقاس أمانة الشخص برقمٍ أو بنسبةٍ معينة، فنقول لديه أمانة خمسونَ درجةٍ أو زيادة أو أقل .. لذلك فإن المعايير التي توضعُ هِيَ في الواقعِ معاييرٌ للضوابطِ وليسَ للنزاهةِ، فمعيارُ سيادةِ القانون يَقيسُ مدى الالتزام بتطبيقِ القانون بمحاورهِ الثلاثة لدى السلطات الثلاث ..
وعلى هذا النهج يُمكن القولُ أن الحُكمَ الرشيد هو أثر للنزاهةِ بينما سيادة القانون والشفافية هما من ضوابطها ، ويمكن قياسها جميعا ، لأن الحكم الرشيد مُتدرج وفقاً لمستوى العلم الذي يَتمتع بهِ مُصدر الحُكم، فالرُشدَ نوعٌ من أنواعِ الحق يتميز عن غيرهِ بصدورهِ من العاقلِ، ومستواهُ يختلفُ بمقدارِ العقلانية التي أساسها العلم، فالحكمُ الرشيد لا يخرج مفهومه عن الحُكمِ بالحقِ، وهو حُكمٌ بالعدلِ مبنيٌ على الصدقِ والأمانةِ، وهما أساسُ النزاهةِ وعنصراهُ الأساسيان، أما الشفافية فَسِمَتها الوضوحُ والعَلانية، ويُمكن أيضا قياسها بمعاييرٍ ومؤشراتٍ لأن نقيضها الغموضُ والتستر، وهيَ إحدى ضوابط النزاهة بمفهومهِا العام، كذلك ما يتعلق بمفاهيمِ المساواةِ وتكافؤ الفرصِ، والتي يُمكن إجمالها بمفهومِ العدالة عُموماً، لأن الحُكمَ العدل هُوَ الذي يتساوى فيه أطرافه وتتكافأ فيه فرصهم، فالحكمُ العدل هو الذي يَصدر عَن الصادقِ الأمين، أميناً على حقوقِ الجميع، فلا تمييز بين شخصٍ وآخر، ولا يُعطي حَق شخصٍ لآخر، صادقاً ومبراً بقَسَمِهِ بأن يحكم بعدالة..
ومن خلالِ هذا المفهوم فإن السبيلَ إلى الوصولِ إلى مُجتمعٍ نزيه هوَ بتعليمِ أفرادَ المجتمعِ مكارمَ الأخلاقِ، وعلى الأخصِ الصدقُ والأمانة أساس النزاهة، وتبدأ مرحلة التعليم والتربية مِنذُ نشأةِ الإنسانِ وولادتهِ وخلال مراحل تعلمهِ الأولى، تُغرَس فيهم هذهِ الصفاتِ وتُنمى فيهم بوسائل التعليم المختلفة، فدولٌ كثيرة مُتقدمة في الشرقِ والغربِ تُخَصِصُ الجُزء الأعظم مِن مَنهاهجها التعليمية لإنشاءِ جيل يَتصِفُ بالصدقِ والأمانةِ، وتعزيز هذا السلوك لديهم بالوسائلِ المختلفة، وفي مرحلةٍ مُتقدمة ومع إعمال ضوابط النزاهة التي أشرنا إليها يكون التعامل متوازناً ومتوافقاً، بحيث يُعتبر القانون والالتزام بهِ أمراً مقبولاً لدى أي فرد في المجتمعِ، لأنه يَتفقُ مع الأخلاقِ التي تَعلمَها وتربى عليها، فلا يُمكن للفردِ أن يَعتدي على حقٍ آخر أو يَقبل أنْ يَحتل وظيفة شخصٍ آخر أحقُ بها منهُ، ولو أعطيت لَهُ بإمكانيات السُلطة والمحسوبية، وهنا يُمكن قياسُ ضوابط النزاهةِ بمعاييرها وذلك بمدى الالتزام بهذه الضوابط التي تُعتبر الحاجزَ الواقي من الانحرافِ والفسادِ.