لا یحتاج المرء للتفكیر العمیق كي یخلص لنتیجة مفادھا أن الأغلبیة الساحقة من أعضاء مجلس النواب یرفضون الصیاغة الحكومیة لمشروع قانون العفو العام، ومصممون على توسیع نطاق الجرائم المشمولة في نصوصھ، یتساوى في ذلك أھل القانون من النواب مع سواھم من المحسوبین على تیارات حزبیة وسیاسیة.
وما كان یقال ھمسا عن“تبییض السجون“ صار عنوانا لخطابات علنیة شھدتھا جلسة ”العصف الذھني“ التي استھلت بھا ”قانونیة النواب“ المداولات حول مشروع القانون.
المطلوب نیابیا عفو لا یستثني أحدا شرط اقترانھ بإسقاط الحق الشخصي في بعض الجرائم. وأكثر من ذلك طالب نواب بشمول جرائم تعاطي المخدرات والتعاطف مع التنظیمات الإرھابیة، والتحرش الجنسي.
استندت ھذه المطالب على حجة المصالحة والوئام الاجتماعي لطي صفحة الماضي وفتح صفحة جدیدة.
كان مثل ھذا الأمر یحدث في الأردن في عقود الخمسینیات والستینیات وحتى السبعینیات، حین كانت السجون تعج بالمئات من السجناء السیاسیین، فیأتي العفو العام كمدخل لتخفیف الاحتقان السیاسي في البلاد التي كانت تعیش تحت وطأة الأحكام العرفیة. وللتذكیر فقط فإن السجناء في سجن المحطة الذین حملوا الشھید وصفي التل على الأكتاف حین زارھم لتنفیذ قرار العفو ھم سیاسیون من مختلف المشارب الفكریة.
لقد لجأت دولة مثل جنوب أفریقیا لتسویات وطنیة واجتماعیة كبرى بعد سقوط نظام الحكم العنصري، قادتھا لجنة المصالحة برئاسة المطران دیسموند توتو الحائز على جائزة نوبل للسلام سعیا وراء الخلاص والغفران من سنوات الحكم العنصري الوحشیة، وتعزیز ثقافة السلم الأھلي بین السود والبیض. ولأجل ذلك لم تتردد اللجنة برعایة مصالحات واسعة بین الطرفین والإفراج عن قتلة بیض ارتكبوا أبشع الجرائم.
لسنا في زمن الأحكام العرفیة، فلا سجناء سیاسیین في الأردن، ولسنا خارجین من حرب أھلیة لا قدر الله، حتى نسعى لفتح صفحة جدیدة بین مكونات المجتمع أو بین الحكم والشعب. نعم ھناك احتقان اجتماعي سببھ صعوبة الأوضاع المعیشیة، لكن ما علاقة قضایا أمن الدولة المتصلة بالإرھاب أو جرائم التحرش الجنسي وتعاطي المخدرات بالظروف الاقتصادیة؟!
منذ الإعلان عن مشروع العفو العام امتنع أغلبیة من أعرفھم من الأصدقاء عن مراجعة دائرة السیر لتجدید تراخیص مركباتھم أملا بشطبھا في العفو. ھذا یعني باختصار ضیاع ملایین الدنانیر على الخزینة، وفي نفس الوقت مكافأة المخالف ومعاقبة من التزم بدفع ماعلیھ من حقوق ومخالفات.
أما في باب الجرائم الإلكترونیة، فلم نفھم بعد كیف یمكن للحكومة أن تشرع قانونا یعفو عن إساءة وقعت على مواطن نالت من سمعتھ وشرفھ وعرضھ وسكنت خزائن المحتوى الرقمي مدى الحیاة، تقفز أمامھ كلما سجل اسمھ على محركات البحث؟!
ھل تملك السلطة التنفیذیة أو التشریعیة جواز مصادرة حق المواطن الشخصي في اللجوء إلى القضاء عبر قانون العفو العام؟
آراء السادة النواب محل احترامنا دون شك والقرار النھائي بشأن مشروع القانون لھم حصرا، لكن خارج قاعة المداولات، ثمة قطاعات وھیئات تخشى على مصالحھا وحقوقھا في حال توسیع نطاق الجرائم المشمولة بالعفو. وفي بالنا أیضا سؤال لا ینقطع عن مصیر شعار سیادة القانون بعد العفو العام.
الغد