توفي والدي رحمه الله- قبل عشرين عاما ، ومنذ وفاته لم نعد نشعر بتلك الحياة والسعادة التي كنا نشعر بها ، فقد تغير المزاج وتوترت الأعصاب، وتعبت الأنفس والأرواح،ولم يعد ذلك الإيقاع اليومي الجميل؛ففي صحبته كان هناك لمة ووليمة أسبوعية وتواصل مع الناس من فرح لعريس، إلى صلحة أو عطوة و إصلاح ذات البين؛ فكان هناك تغييب للماديات ، فالله هو الرازق وهو العاطي، في غياب أبي تغيرت عادات وتبدلت قيم ومفاهيم وثوابت، ودخلت في حياتنا وجوه جديدة لم نألفها من قبل، و- كأنها الموت القادم من الشرق- وجوه استبدلت الكبير بصغير، و القوي بضعيف، منحت صكوكا بالحقوق واصدرت صكوكا بالحرمان، فعبثت في كل شيء، وكأن القدر رأف بأبي لئلا يرى هذه الأيام، وبحكم أني الابن الأكبر فقد آل أمر العائلة لي ويا ليته لم يأل،فقد توالت الإخفاقات والصدمات والنكسات الواحدة تلو الأخرى لي ولأسرتي.
فقد تخليت عن أرث أبي ، وذهبت إلى أن أعماله وطريقته ضرب من العبث وتضييع للوقت، فاتجهت مباشرة إلى نهج جديد ومغاير، فكان أن تم حصر الارث المادي وتوزيعه على مستحقيه في وقت لم يبلغ الورثة رشدهم في حسن التصرف فيما آل إليهم، فكان لي ما أردت ، وكان لهم ما أرادوا حيث الإسراف في الكماليات من جانب، وعدم الاتجاه نحو تنمية ذلك المال من جانب آخر، رافق ذلك غياب لتلك الروحانيات الجميلة التي كانت في عهد أبي، بقصد أو بدون لإنهاء أرثه القيمي، إذ شكل المال حالة من الضبابية بعد أن بيعت مقدرات العائلة، فدخل بعض أفراد أسرتي في علاقات جديدة وتعرفوا على غرباء ودخلاء ولصوص كان نظرتهم ورؤيتهم لما بين أيديهم من مال، والقضاء على إرث أبيهم المتمثل في الكرامة والعزة والإباء، وسلخهم عن ذلك الأرث، على أن بعضا من أفراد أسرتي كانت طريقتهم مغايرة؛ إذ استثمروا ما آل لهم من مال في مواصلة تعليمهم،وأصبحوا بعد ذلك على ما فعلوا نادمين و لم يشفع لهم " اقرأ" "ولا اطلب العلم ولو في الصين" " ولم يبن لهم العلم بيوتا لاعماد لها.ا" .
ففي البيئة الخارجية لم يكن هناك متسع لمجتهد أو مجد، وكان عليهم أن يسعوا في فلك الكسالى والضعفاء ليأكلوا لقمتهم، ذلك أنهم لم يستوعبوا الواقع الجديد، ذلك الواقع الذي افرغ مواد الدستور والقوانين من مضمونها، وصارت حقوق الإنسان وكرامته شعارات وفي اطارها النظري فقط، بل أفرزت تلك التشريعات طبقتين أقرب ما تكونا إلى طبقتي الأسياد والعبيد؛ فالأسياد يسمحوا بالمرور لمن يشاءون وأين ومتى وبات اللجوء للحقوق هو الاستجداء والتبعية، وليس ذلك فقط وإنما رافق ذلك سياسة "فرك الأذن" من هنا أوهناك أو وسياسة الإقصاء والإبعاد لمن يتجرأ ويتطاول على الطبقة المخملية التي جمعت المال والسلطة.
في المحصلة وبعد كل هذه السنين فأني وبلا شك اعترف أنني لم أكن على قدر المسؤولية، ولم امتلك الرؤيا الثاقبةلا على صعيد فهم الواقع الجديد ولا المحافظة على إرث أبي وماضيه، وأضعت مستقبل أسرتي ، في الوقت الذي كان غيري أقدر على ان يكون ربانا ماهرا للسفينة، وأن ما أضعته يحتاج إلى عشرات السنين لإصلاحه؛ لذا سأرحل تاركا الحل لله وحده.