نتشاغل بقضايا الفساد الكبيرة، فقط، لكن الكل يتعامى عن الفساد الصغير المنتشر في كل مكان، وكأنه وباء من زمن المغول، لا يقف في وجهه أحد.
في الحديقة الخلفية لعمان الرسمية هذه الأيام، اعتراف غير معلن أن الفساد الصغير بات يستشري في المؤسسات الحكومية على مستوى الرشى. في المعلومات أن هناك أربع دوائر رسمية تحت العين، يتم الحديث عنها هذه الأيام باعتبارها باتت مرتعا للفساد، على صعيد دفع المال لبعض موظفيها، من اجل تمرير المعاملات، فيتم دفع المال لهذا أو ذاك، ضمن شبكات في هذه المؤسسات.
مسؤول على رفعة في المستوى يقول إن المواطن أمام بعض المؤسسات قد يكون عليه استحقاق مالي بقيمة مائة دينار، فيتم رفع المبلغ إلى ثلاثمائة دينار، ظلما، من أجل اجباره من جانب بعض الموظفين على دفع رشوة بقيمة ثلاثين دينارا، مثلا، من أجل العودة إلى المبلغ الأساس، أي إلى مائة دينار، وهذا نمط قد يتكرر في غير موقع ومكان، بقبول من الراشين والمرتشين على حد سواء.
وحدهم الذين يريدون حصر اتهامات الفساد بأسماء محددة، لا يريدون الإقرار ان الفساد بات منتشرا في كل مكان تحت مسميات مختلفة، من الاكرامية الى تسهيل المعاملة الى خفض قيمة رسوم ما، والسبب في ذلك انهم يريدون تسييس حملاتهم ضد أسماء محددة، ولا ينفعهم هنا الحديث عن الظاهرة وتمددها إلى مؤسسات عدة، باعتبار ان رجم كبار القوم أكثر شعبية.
كيف يمكن أن نفسر وجود حالات كثيرة لموظفين حكوميين دخولهم لا تتجاوز الخمسمائة دينار مثلا، فيما سيارة بعضهم جديدة ومرتفعة الثمن، أو انه يدفع رسوم أولاده في الجامعة بكل يسر، أو انه بعد التقاعد تظهر عليه آثار المال بشكل متأخر، وهو لم يرث أرضا، ولم يكتشف كنوز قيصر ولا هرقل، ولا هاجر وغنم غنيمة من عالم البحار.
من اجل حصد الشعبية في الأردن عليك أن تتهم أسماء كبيرة باعتبارها فاسدة، وقد تكون هكذا وقد لا تكون، لكن الأهم التنبه إلى أن الفساد أصبح ثقافة عامة، بداية من ميكانيكي السيارة الذي ينهبك بذرائع مختلفة، وصولا إلى الموظف الحكومي الذي يقول لك إن الكل يسرق، فلماذا لا أسرق؟!.
من المفارقات أن البعض يبرر شيوع ثقافة “الفهلوة” والفساد الصغير كون الحياة باتت صعبة، وان البنية الاجتماعية تعرضت إلى هزات أخلاقية اعادت انتاجها، وان الفئة المتنفذة هي السبب وراء شيوع الفساد.
لا أحد يتوقف عند المحرم الديني والاخلاقي، الذي يمنع في الأساس التورط في رشوة، حتى لو بلغ الجوع مبلغا كبيرا، دون أن انكر هنا، أن الأردن الجديد تغير تماما، ولم يعد الأردن الذي نعرفه، تحت وطأة تغيرات كاسحة على كل المستويات، انتجت في المحصلة ظواهر خطيرة.
كل الضمانات القانونية للمبلغين عن الفساد، لا تقنع أحدا، لان الذي يفترض ان يقوم بالابلاغ بات شريكا في القضية، فيختصر الصداع والاشكالات، ويرى في دفعه للرشوة حلا سريعا لمشكلته، وهذا يعني أن المراهنة على المواطن بكونه مصدر المعلومات الأهم للإبلاغ عن حالات فساد، مراهنة غير صحيحة.
هناك حالة استعصاء في معالجة ملف الفساد، لأننا نتعامى عن الحقيقة، ونريد فقط ان نبقى بذات الصورة، الصورة البريئة تماما، واننا فقط الضحايا لمن يسمون انفسهم الكبار، وانهم وحدهم من يسرقون ويفسدون في الأرض، فيما البقية مجرد ضحية لافعال هؤلاء، وإذا كان هذا الأمر صحيحا إلى حد ما، إلا انه لا ينفي شيوع الفساد وتحوله إلى ثقافة عامة، مثل مجتمعات عربية وآسيوية.
نحن اذا أمام طائفة جديدة، من شتى الفاسدين الكبار والصغار، طائفة تتمدد بكل قوة، والأدلة على ذلك يعرفها الراسخون في العلم، في هذا البلد.
الغد