مئوية البيعة وشرعية الإنجاز
د. حازم قشوع
02-01-2019 01:56 AM
يحتفل الأردن فى هذا العام بمئوية البيعة، ومرور قرن على مبايعة الهاشميين لقيادة الأمة في العصر الحديث، البيعة التي جاءت لتعظم دور الأمة في صون رسالتها وتأصيل مكانتها، ليكون الأردن المنارة الحاضنة للفكر العربي والمركز الرئيس فى حمل لواء قضاياها، ولقد حمل الأردن على مدى السنين التي انقضت، ذلك المنطلق القويم الذي يسعى لصون الحضارة الانسانية وثقافة الأمة، عبر تقديمه لجهود مشهودة في حماية أمن الأمة والدفاع عن المبادئ الانسانية التي تقف عليها في وطن الأديان ومهد الاديان السماوية، حيث شكل على الدوام، ملجئ من لا ملجأ له، مما جعل الأردن واحة الأمان وبوابة الاعتدال والصوت العقلاني المتزن الذي يدافع بأدوات العصر عن قضايا المنطقة.
وتميزت السياسية الملكية الهاشمية بمنهجية تنويرية موضوعية، تقوم على العقلانية بالطرح والتعاطي بالاتزان المقرون بالثوابت في تشكيل جمل التصور والقرار السياسي، فشكل النموذج القادر على التعاطي مع المعطيات والأحداث بما يستوجب من اجراءات أو قرارات تبتعد عن العواطف والشعارات في أغلب الأحيان لكنها دائماً كانت ناجعة وقادرة على الاستجابة مع المنعطفات الحادة أو المنزلقات العميقة في المنطقة بطريقة تقوم على آليات حداثية في احتساب الكيفية وآليات التنفيذ، لكنها ليست على حساب المبادىء التي تقف عليها رسالته حتى لو حملت رياحها تأثيرات تاريخية تحوى ارهاصات عميقة تنذر باهتزازات أفقية أحياناً ورأسية في أحيان أخرى، وكانت دائماً تجابه بإلتفاف شعبي عظيم حول القيادة لحسن قراءة الشعب الأردني للمشهد السياسي العام وقرب القيادة الأردنية من نبض الأسرة الأردنية الواحدة.
وهذا يدل على مدى التحصين الذي تتمتع به الدولة ، وعمق النظام السياسي الهاشمي، بارتكازه إلى ثلاث شرعيات حضارية وانسانية وقيمية، ميزتها الشرعية التاريخية التي أمتدت بمكانتها إلى اشراف بني هاشم الذين حملوا بيرق الأمة وتاريخها ودافعوا عن حرمة مكانتها وعن قدسية دورها كما حملوا لواء المجد من سليل الدوحة الهاشمية، عندما حملوا أيضاً لواء الشرعية الدينية التي جاءت لإحقاق الحق ولصون الحضارة الانسانية، كما عمل بنو هاشم للحفاظ على اطلاق الثورة لصون المجد العربي بواسطة النهضة العربية الكبرى محققين بذلك أحد أبرز عناوين الفكر العربي في العصر الحديث، الذي أستند إلى رسالة تقوم على نهج، منطلق من مبادئ قيمية ومقومات حضارية ونهج عربي قويم، فكان التجديد للبيعة منذ قرن من الزمان وكان العقد الاجتماعي عرف بالإشهار قبل نصوص الدستور فكانت البيعة التي يحتفل الأردنيون في مئويتها هذا العام «للتأكيد على ثابت الشرعية المتصل».
ولقد عمل جلالة الملك عبدالله الثاني منذ تسلمه سلطاته الدستورية على وضع استراتيجية منهجية للعمل التنموي، تسعى على إضافة «الركن الرابع في المملكة الرابعة» للشرعيات الأصلية التي يرتكز عليها النظام السياسي، التاريخية والدينية والثورية عن طريق العمل على إضافة شرعية رابعة تتمحور حول شرعية الانجاز، فعمد جلالة الملك عبدالله الثاني على الارتقاء في الخمسة محددات الرئيسية التي تتشكل منها، صفات المجتمعات المتقدمة عن طريق الارتقاء في مناخات المجتمع المدني وسيادة القانون وحماية مناخات الحرية في المقام الأول، والعمل على تجذير النهج الديموقراطي التعددي في المقام الثاني، ونقل طور النهج الإداري إلى اللامركزي والحكم المحلي في المقام الثالث، وتطوير نهج التعلم والتعليم المعرفي في المقام الرابع، وتحويل النهج الاقتصادي من طوره الرعوي إلى الاقتصادي الانتاجي في المقام الخامس، وهي خمسة مرتكزات رئيسية، ترتكز عليها مقومات المجتمع المتقدم وتستهدفها شرعية الانجاز، حيث كان قد بينها جلالة الملك عبدالله الثاني في رؤياه في الأوراق النقاشية والتي حملها كتاب الأوراق الملكية رؤية استراتيجية في الرؤية والاستراتيجية وكيفية قراءة المشهد العام وأهمية الوقوف على المبادئ خصوصاً في اللحظات التاريخية لاسيما تجاه القضايا المركزية للأمة.
ولقد أثبت النظام السياسي في كل مرة مدى تفوقه عن ذاتيته، من خلال سرعة الاستجابة الضمنية في التعاطي مع الأحداث، وقدرة المرونة الذاتية بالتكيف مع الظرف الموضوعي المحيط، وتجاه المتغيرات التاريخية والجيواستراتيجية والتي قد تباغت المشهد العام بشدتها وبشكل سريع وعميق أحياناً، لكن عمق ورسوخ النظام في جذور الأصالة والأعماق الشعبية، كان يجعل من رياح التغيير دائماً تمر بسلام على الوطن، وهذا مرده صلابة جذور النظام وتماسك شعبه حول قيادته.
مما جعل من الدولة الأردنية تمتلك قدرة على المناورة ومقدرة على الترفع، عبر رفع اطار المؤطر لمناخات الحرية عند التعرض إلى حالات الشد أو الضغط مهما ارتفعت سقوفها أو كان حجم التحديات التي تحملها مناخاتها، فالنظام الأردني كان دائماً قادرا على رفع عامود البيت لاحتواء الجميع، في إطار الدولة التي تتسع لكل التوجهات والطروحات، مهما أبتعدت التوجهات أو غلت الشعارات كانت الدولة واطارها أعلى من الجميع لذا كانت قادرة على هضم كل المركبات وامتلاك أصوات الجميع بالاحتواء الذي يحتوي المشهد الكلي ولا يذهب في الاقصاء الجزئي، هذا إضافة إلى قوة الدولة الأردنية الردعية القادرة على ردع كل الضغوطات والتعاطي بمهنية أمنية مع كل التهديدات التي تعرضت إليها المنطقة وأنظمتها كما هددت حالة السلم المجتمعي في ربوعها.
صحيح أن رؤية جلالة الملك تجاه تجسيد شرعية الانجاز لم تتحقق في الكامل بعد، على الصعيد النمائي والتنموي وعلى المستوى الاصلاحي والتحديثي، لكن ما يجعل كل المراقبين والمتابعين لمسيرة الدولة الأردنية، واثقين من حتمية الوصول إلى استهدافات شرعية الانجاز، هو أن جميع هذه الاستراتيجيات قيد التنفيذ إضافة إلى ذلك الاصرار الذي يتحلى به جلالة الملك وصدق الإرادة التي تتحلى فيها سياسته، من واقع دعمه ورعايته بل وتوظيفه لكل الجهود التي تسعى لتحقيق ذلك.
ولقد حرص جلالة الملك على وضع الاطار العام لشرعية الانجاز، عندما عمل تعديل الدستور وأكد على استمرارية ذلك الالتزام بإجراء الانتخابات وايجاد مشروع اللامركزية إضافة إلى مشاريع تنموية كبيرة في عمان والعقبة والبحر الميت، وأخرى استراتيجية مثلتها الانتقال تجاه الطاقة المتجددة وموانئ جوية وبحرية إضافة إلى مناخات جاذبة للاستثمار على الرغم من شدة الارهاصات الأمنية والسياسية التي ما فتئت تعصف في المنطقة تارة عبر الضغوطات الأمنية المحيطة وتارةً أخرى من تداعيات الأزمة الاقتصادية، إضافة إلى حجم الضغوط الاقليمية التي حاولت تغيير المسار القيمي الذي تقف عليه المبادئ الثابتة للدولة الأردنية التي انطلقت منه رسالة النهضة من أجل الحرية وحماية المنجزات وصون المكتسبات والذود عن القضايا العربية المركزية.
إن الأردنيين وهم يحتفلون في مؤية البيعة، إنما يؤكدون على مبادئ البيعة ومرتكزاتها الأربعة في أهمية دعم رسالة البناء الوطني للوصول ببرنامج شرعية الانجاز إلى استهدافاته المرحلية وغايته الاستراتيجية، ليكون الأردن في مصاف الدول المتقدمة ويكون الأردني في المنزلة التي يستحقها من رفاهية معيشية، ورفاه اجتماعي، وواقع خدماتي، من منطلق قدرة الدولة الأردنية على الانتصار على ذاتها بذاتها، وتحقيق الذات الأردنية التي تستهدفها استراتيجية جلالة الملك عبدالله الثاني تجاه شرعية الانجاز.
dr.hazemqashou@yahoo.com
الأمين العام لحزب الرسالة الأردني
الراي