خواطر على اعتاب العام الجديد ..
د. نضال القطامين
31-12-2018 06:25 PM
مثلما يقف العالم على أعتاب عامٍ جديد، أقف الآن على ضفة التايمز وأقرأ على وجه الماء ما كتبه أرابيوس على شاهد قبره في جدارا... أيها المار من هنا، كما أنت الآن كنت أنا، وكما أنا الآن ستكون أنت.
هنا، على امتداد ضفتي النهر، أرى العالم ينام ملْ جفونه عن شوارد الديمقراطية والحضارة والتاريخ والعلم. أستقل القطار وأصعد عربات مترو الانفاق وأقرأ أن خدماته قد بدأت في عام 1863، ثم أرى في الطريق إلى غايتي لافتة تشير إلى الدوار الرابع الإنكليزي - 10 دواننغ ستريت، وهناك أقرأ أن مطلع القرن التاسع عشر، قد حسم قضية الحكم وجعل الدولة ملكية دستورية يتناوب على الحكم فيها حزبان فقط. حزبان وليس خمسون.
على طول الشوارع وعرضها، تكتظ الارصفة بالمشاة، والمحلات التجارية، وبينما تعبق الروائح في المطاعم ومحلات القهوة، تتعالى الاصوات في مناقشات البرلمان، وتعصف زوبعة بريكست بالأجواء الغائمة أصلاً، لكن الناس هنا ديمقراطيون، ومهنيون، وهادئون جدا.
هنا في لندن برج "بيغ بن" وقد كانت تقرع أجراسها كل ساعة وتُسمع أصداؤها في المدينة، قبل أن يعلن مجلس العموم قراره بإيقاف دقاتها للصيانة والتحديث.
وأتساءل، هل كان لدى مجلس العموم وقت يخصصه لقرار عن عمليات صيانة لبيغ بن ؟ هذا ما جعل منهم أمة تحترم هويتها، هنا في المملكة التي تحتضن التاريخ، ماذا عن موقع عمّاد السيد المسيح عليه السلام على الضفة الشرقية للنهر المقدس، ماذا عن احتفال العالم كله بميلاده، ماذا عن البترا، عن التاريخ الممتد في طول البلاد وعرضها...!
هنا في لندن، يحتضن ميدان "بيكاديللي الأسواق والسينمات والمسارح والمطاعم والمقاهي، مثل أم رؤوم، هذا وجه لندن السياحي، هنا الهايد بارك ومتحف الشمع والمتحف البريطاني وغيرها. هل نجلد ذاتنا لو قلنا أننا حكومة وقطاعا خاصا لم نحقق سوى النزر اليسير مما يجب أن نجنيه من السياحة؟
هناك في الوطن الكبير الممزق، يجد كل عربي نفسه حزيناً على الضياع، على الإنشغال بقضايا سكبت ماء وجه العربي واستباحت دمه، في فلسطين التي غيّبتها انشغالات الدول بحروبها الأهلية، ولم تعد القدس في قاموس مفرداتها. وحده الملك عبد الله الثاني، من يذكّر بها، في المؤتمرات والخطابات والزيارات.
سأعود لوطن يختزل التاريخ، للبقيعاوية حيث استظل محمد عليه الصلاة والسلام، ولوادي الخرار، للركن الذي تعمّد فيه عيسى عليه السلام، لمكاور وقد كان رأس يحيى بن زكريا ثماً لخطيئة سالومي، إلى عين غزال وقد استوطنها البشر قبل عشرة آلاف سنة من مولد السيد المسيح، إلى الحقول التي ينضج فيها القمح على هدأة الشمس، إلى ذيبان وقد كتب ميشع على حجرها، أنا ميشع بن كموشيت ملك مؤاب، إلى البترا وإلى سيد السيق الحارث الثالث.
سأعود للوطن، ذاك الجزء العزيز من جسد العروبة. وطنٌ متقدم على غيره، والمسافة بينه وبين العالم المتقدم ليست طويلة كما يجب، وما علينا سوى الإحتفال بالغراس وسنرى الشجر يتطاول ولو بعد حين.
سأعود وسأجد العصف الفكري الذي تشكّل منه حراك الخميس، ما زال عاملا، وما زال الناس قلقون. كنت قد اقترحت على الحكومة والحراك بكل اطيافه، الجلوس إلى طاولة الحوار على الفور، ذاك أننا نملك تجربة سياسية جيدة، بانت فيها محاور ممارسة السياسة، ولدينا اليوم نافذة واسعة للولوج نحو التأسيس والبناء عليها، وقد سمعنا حديث جلالة الملك مع الكتّاب قبل اسبوع، الذي يستحق بما ورد فيه من توجيه رشيد أن يسمى الورقة النقاشية الملكية الثامنة.
نملك ما لا يملكه أحد؛ تاريخ معبأ بالمجد، وشعب درج أول خطواته على وقع الزغاريد في الكرامة وقبلها في القدس، وأضحى بهذه الصفات الإستثنائية، مؤهلا لاستيعاب مقدمات العمل البرلماني، عمل مغلّف بخصوصية أردنية فرضها التاريخ. لكنه شعب غير عصيّ أبدا على الإنفتاح ولديه استعداد فطري لابتلاع الثقافات وممارسة التقاليد العريقة في الديمقراطيات.