لَمْ يَكُن لِدَيهم أَدوات تَواصلٌ اجتماعي ، ولَم يَكُن لِديهم أَجهزة تلفاز، حتى الكَهرباء لَم تَكُن قد وَصَلت إلى بيوتِهم بَعد ، كانت السَهرةُ تبدأ بَعد العشاءِ يتعللُ الأهلُ والأقاربُ على أحاديثِ الحكواتي ، يُحَدِثَهم عَنْ قِصةِ الزير سالم ، أو بَعضَ قصص الخيالِ المنسوجة بمهارة ، فيها عناصرُ القصةِ الأساسيةِ كالشخوص والحبكةِ والحلول ، كانت ثقافةُ الأهلِ والأقاربِ محدودةً لانعزالِهم عن المحيطِ الخارجي وتدني المستوى التعليمي ، حتى القراءَة والكتابة كانت نادرة ، يصدقونَ مايقُصُه الحكواتي عَليهم ، ثُمَ بعدَ ذلك يتداولون القصةَ فتصبحُ من تراثِهم وذكرياتِهم ..
الحكواتيون لَهُم شَعبية أَينما حَلّوا ، لَهُم جماهيرهم يَستمعون إليهم ، هَدفهم التسليةُ والمرحُ وإضاعةُ الوقتِ في إطارِ تعليلةٍ ليليةٍ على أضواءِ الفوانيس مع سكون الليلِ الذي يجعلُ من قصصِ الحكواتي مَشهداً خيالياً يؤثرُ في النفسِ ، مستخدما مهاراته في السرد والتشويق ، فلا أحد يقاطعُ الحكواتي ولا أحد يعارِضهُ ، هوَ سيدُ المشهدِ كاملاً ، يجوبُ القرى شرقاً وغرباً ، يتصدرُ المجالسَ ثم يتركَهُم وهُم في شوقٍ إليهِ ، ليُعيد الكَرّة عليهم بمظهرٍ جديدٍ ، ومعهُ قِصَصٌ جديدة لايجمعَها إلا الخيال وبساطة المستمعين ..
ومع تطور وسائلَ الاتصالِ ووجود الكهرباءِ واكتساب الثقافة والعلوم ، اعتقدتُ أنا وغيري أن الحكواتي أصبحَ مِنَ الماضي ليَستقر في أيقونةِ الذكرياتِ بهاتفٍ محمولٍ ، لَمْ يَخطُر ببالي أن الحكواتي لم يَزل موجود بيننا ، يقصُ علينا ذاتَ القصَص بأسلوبِه القديم ، نعم نعم لَمْ يذهب الحكواتي ، إنما جاءَنا بمشهدٍ جديدٍ على وسائلِ اتصالٍ جديدةٍ ، ليظهرَ عليها في كلِ حينٍ مِن زوايا مُختلفة ، ليُسمِعنا ذاتَ القصةِ أو قصصٍ جديدةٍ ، فالحكواتي طورَ نفسَهُ أيضاً ، فبعضُهم أصبحَ يُتقِن فَن التواصل ، والتخاطب ولَديهِ شهادةُ الدكتوراة، ولم يَزل الحكواتي يَتصدرُ الجلسة بشاشاتِ التفاز في البرامجِ المختلفة بأسماءٍ متعددة كصوتُ البلد ونبضُ المملكة وعند المساء وخمسون دقيقة ، أو على الإذاعاتِ و(الأف أم) ، أو في الندواتِ الحوارية أو المناسبات الدولية والوطنية ، هُم أنفسهم الحكواتيون تشاهِدَهُم يَتنقلون مِن مكانٍ لمكانٍ مَعهُم نَفسُ القصةِ ، ولكن بإسمٍ جديدٍ ويرتدونَ ملابسَ جديدة ..
أصبَحت مِهنة الحكواتي عِلماً يُدرس وعملاً يُتقاضى عليهِ أكثر الأجور ، ومطلباً لكلِ سُلطة أو هيئة ولكل المحطات والمواقع ، فالحكواتي بأسلوبهِ القَصَصي وخِبراتهِ سَيُقنِع الناسَ أن لَونَ دمائهم أصفراً ، وأن أبازيد الهلالي لازالَ على قيدِ الحياةِ ، وسَيُكررُ قِصَصه على جميعِ القنواتِ وبجميعِ الوسائل والندوات ، لَمْ يَفقد الحكواتي أهميته بل زادت وأصبحت مهنته تُغدق عليهِ الأموال ، وتُسهل إليه اللقاءات، وينالُ رضى السُلطةِ، لا يتكلم أحد غَيره، سَيبقى الحكواتي بَينَنا يُحدِثُنا عن الماضي والحاضر، ويقولُ لنا أنا موجودٌ، شئتم أم أبيتم، فالحكواتي صَوتهُ دوماً عالياً فوقَ جميعِ الأصواتِ، مادامَ يتحدثُ بقصةِ الزير سالم كما تراها الهيئة أو السلطة..
لَكِنَّ شيئاً واحداً أساسي قد تغير، هُم أؤلئك الذين يستمعونَ للحكواتي، فأصبحوا على مستوى عالٍ من الثقافةِ والعقلانيةِ والعلمِ، خَرجوا من عُزلتِهِم ومُحيطهِم، يُدركون ما يجري حَولهم، ويعلمونَ أَن لونَ دمهم أحمرا، وقصة الزير سالم من نسجِ الخيالِ، حتى وإن استمعوا لقصةِ الحكواتي مُجبرين أو من بابِ التسلية.. لقد أصبحوا يعلمونَ حقيقة الحكواتي بأن قصصه خيالية ولن تُقنعهم، حتى ولو بقي يتكلم بقصة الزير سالم بجميع الترددات الصوتيه وعلى جميعِ القنواتِ الفضائية ..