في رحاب الموازنه (٢) الاصلاح المالي والسياسي
د. عادل يعقوب الشمايله
30-12-2018 10:16 AM
تَرمزُ كلمةُ "إصلاح" الى التوجه من نقطة تقع على اقصى يسار خط مستقيم مكتوب عليها غير مرغوب به، باتجاه نقطة على أقصى يمين الخط المستقيم مكتوب عليها مرغوب به. والاصلاح الناجح القابل للاستدامة هو الذي يتحقق بالتدريج ، وذلك، بالتحرك المتواصل المثابر من نقطة المكروه الى نقطه المرغوب. وبهذا ينتفي مبرر الخيار الثوري لتحفيق الاصلاح.
إنطلقت شعارات الاصلاح المالي للقطاع العام في الاردن، للمرة الاولى عام ١٩٩٠ على اثر الافلاس المالي الذي أدت اليه افعال وسلوكيات وسفاهة الحكومة خلال الفترة منذ ١٩٨٤-١٩٨٨. ولان حالة الافلاس المالي قد تسببت في انتفاضة معان، فقد ترافق مع شعارات الاصلاح المالي، نثر شعارات الاصلاح السياسي.
إختارت الحكومة أن تبدأ بالاصلاح السياسي اولاً لامتصاص نقمة الشارع، وذلك باعادة الحياة لمجلس النواب المنحل منذ عام 1967. وحتى تكون الحكومة مقنعة، قررت أن تمرر الانتخابات لمجلس نواب ١٩٨٩ بدون تزوير ملحوظ. ورغم أن هذه التجربة كانت محل قبول محلي واسع النطاق، مما أفاد النظام أكثر مما أفادته مجالس النواب المزورة والمعينة، إلا أنه سرعان ما تم وأد المبادرة في سائر الانتخابات اللاحقة، وبذلك توقف مشروع الاصلاح السياسي، وتم اعادة توظيف منهج التخريب السياسي من خلال قانون الصوت الواحد، والتعديلات الدستورية التي عمقت الحكم الاستبدادي المطلق.
أما فيما يتعلق بالاصلاح المالي، فقد كان لا بد من اللجوء لصندوق النقد الدولي، لكون الصندوق الذي تساهم فيه كافة دول العالم بحصص متفاوتة، قد أُنشأ أصلاً للتدخل في حالات تعرض الاستقرار الاقتصادي للدول للتهديد وانعكاس ذلك على قيمة العملة الوطنية، وهذا بالضبط ما كانت تعاني منه الاردن. في هذه الحالة يتعين على الصندوق تقديم التغطية المناسبة لتعويض النقص في العملة الصعبة كقرض يتم تسديده عندما يتحقق الاستقرار الاقتصادي. وهكذا هب الصندوق لانقاذ الدينار الاردني والا لتهاوت قيمته الى مستوى الليرة السورية.
قام الصندوق بارسال عدد من خبرائه الى الاردن لتشخيص اسباب الانهيار الاقتصادي. وقد توصل الخبراء الى تحديدِ ثلاثةِ عواملَ أدت لوصول الحكومة الى حالة الافلاس المالي. العامل الاول هو عدم موائمة الايرادات المحلية لحجم النفقات العامة. الثاني الاعتماد المتزايد على المنح والمساعدات لتغطية العجز. أما الثالث فهو التزايد المضطرد في الدين العام الخارجي للحصول على عملة صعبة لتمويل التبذير الحكومي والمستوردات. ورغم تأكد الخبراء من وجود عامل رابع اكثر تأثيرا وهو الفساد الذي ابتلع احتياطي البنك المركزي من العملات الاجنبية، الا أنهم لم يصرحوا عنه بوضوح تجنبا لسكب البنزين على لهب الشارع المتحفز.
قدم خبراء الصندوق وصفتهم للاصلاح المالي، وقد تضمنت الوصفة اربع وسائل: أولها: زيادة الايرادات الضريبية زيادة نوعية. وهذا يتطلبُ إدخالَ أنواعٍ جديدة من الضرائب والرسوم والرخص، وزيادة نسب الضرائب والرسوم والرخص الموجودة اصلا. الثاني تخفيض معدلات نمو النفقات الحكومية، وتقليص حجم الحكومة باستخدامِ إسلوبِ الخصخصة. الثالث، مكافحة الفساد من خلال إنشاء دائرة لمكافحة الفساد. الرابع تخفيض قيمة الدينار وربطه بالدولار الامريكي بنسبة محددة مستقرة. وكان معيارُ النجاحِ لهذه الوصفة هو انخفاض نسبة العجز السنوي في الموازنة العامة، بحيث لا تزيد عن حد مقرر. هذه الوصفة هي وصفة لسياسة إنكماشية بامتياز.
لكن هذه الوصفة التي بدت مُرةً، وهي كذلك، لا تخلو من إيجابياتٍ لو طُبقت بنزاهةٍ والتزام. الايجابيةُ الاولى، حِفظُ ماء الوجه وإستعادة السيادة الاردنية المرتهنة بل المحجوز عليها للحكومات المانحة منذ أن أُنشئ الكيانُ الاردني. الايجابيةُ الثانية، تخفيضُ الاعتمادِ على الاقتراض من مصادر خارجية وداخلية ، وبالتالي تجنبِ الوقوعِ تحت وطأة الاقساط والفوائد التي تحتاج الى عُملة صعبة لسدادها لا تتوفر للحكومة. الايجابية الثالثة، استخدام عوائد التخاصية في تسديد جزء من رصيد الدين الخارجي وهذا ما يهم الصندوق ليسترد امواله واموال الدائنين الخارجيين ولحماية الدينار الاردني من الهزات بسبب الحاجة الى عملة صعبة لتسديد اقساط الديون والفوائد. أو استخدام عوائد التخاصية لتمويل مشاريع رأسمالية للتعويض عن تجميد الانفاق الرأسمالي من الموازنة العامة. الايجابية الرابعة، تخفيضُ العجز في الميزان التجاري بتشجيع الانتاج المحلي لتعويض النقص في المستوردات بسبب انخفاض قيمة الدينار، وبالتالي تحسين وضع ميزان المدفوعات.
ولترجمة وصفة البنك تم اضافةُ ضريبةِ المبيعاتِ الى النظام الضريبي الاردني، وَكنتُ أولَ من أعد الدراسة لها، ووضع إطارها، واقترحَ نِسبتها المئوية التي لا تتجاوز ٤٪ فقط لتحقيقِ مبلغ الايراد المطلوب. الا ان النسبة التي أقرها مجلس النواب كانت ضعف تلك النسبة، للتعويض عن نقص الايراداتِ الناجم عن إصرارِ عدد من النواب والمتنفذين، على إعفاء السلع التي تُنتجها او تُجمعها مصانعهم، أو يُتاجرون بها، من الضريبة. لم تتوقف نسبة ضريبة المبيعات عند النسبة الاولى التي اقرها مجلس النواب وهي 7.5% بل استمرت الحكومة بزيادتها حتى وصلت الى 16٪. وطبقا للتوصيات، قامتِ الحكومةُ بتعديل قانون ضريبة الدخل عدة مرات كانَ أخرها عام ٢٠١٨. كما تعرضت باقي انواع الرسوم والرخص القديمة الى زيادات متلاحقة، واضيفت انواع عديدة مبتكرة اليها. كل ذلك تم تحت عنوان الاصلاح المالي.
أما في جانب النفقات فقد تم تخفيض مخصصات الصيانة في موازنة الوزارات بصورة حادة هددت بقائها صالحة للاستخدام، كما تم التوقف عن تنفيذ مشاريع رأسمالية جديدة، وجُمدت الرواتبُ والحقوقُ التقاعديةُ وأوقفت التعيينات.
الخلاصة: أن مزاعم ومسرحيات الاصلاح المالي التي ابتدأت عام ١٩٩١ لم تتوقف ولن تتوقف بسبب فشلها. والدليلُ على الفشل ما يلي:
- ألاستنزاف المُتصاعدُ لجيوبِ المواطنين الاردنيين. وتحول النظام الضرييي برمته الى نظام ظالم يعتمد على الضرائب غير المباشرة في 85% من تحصيلاته.
-إستمرارُ الاعتمادِ على العونِ الخارجي، مُقابل رهنِ السيادة الاردنية واستقلال القرار السياسي والاقتصادي الاردني. مع استمرار عدم الافصاح عن كامل المعونات المقدمة.
-إستمرار الاقتراض من المصادر الداخلية والخارجية حتى تجاوزت نسبة الدين العام ضعف الناتج المحلي الاجمالي الحقيقي.
-إستمرار تطبيق سياسة الانكماش الاقتصادي بتوافق السياستين المالية والنقدية، وهذا هو سببُ تراجعِ معدلِ النمو الاقتصادي الى ما بين 1-1.7%. والنمو السلبي لحصةِ الفرد من الناتج المحلي الاجمالي.
-استمرار مُسلسل الفسادِ بل وتصاعده الذي يأخذ اشكال استغلال المشتقات النفطية واسعار المياه والكهرباء واخفاء التحصيلات من الضرائب والمساعدات ورصد مبالغ مبهمة في الموازنة تحت تصرف رئيس الوزراء ووزير المالية غير خاضعة لرقابة مجلس النواب وديوان المحاسبة، وما يسمى تسديد التزامات سنوات سابقة.الخ.
- نهبُ اموالِ التخاصيةِ وعدم استخدامها في أي من البديلين المُقترحين.
واخيرا لا بد من تحديد من هو المسؤول عن هذا الفشل. هناك توافق غير مقصود ما بين الحراكيين والحكومةِ على إتهام صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. ومن اجل بيان الحقيقة فإنني اقولُ إن مزاعم الحكومة بانها مُضطرةٌ لزيادة الضرائب تنفيذا لشروط صندوق النقد الدولي هي مُجرد اكاذيب وإهانةٍ للذات. فمنَ العيبِ على دولة ذات سيادة أن ترضخ للشروط. صندوق النقد الدولي هو مُجردُ مُنظمةٍ دوليةٍ تُساهم فيه كافةُ دُولِ العالم، وليس له جيشٌ ليحتل الدول التي ترفض شروطه. لكنهُ مسؤولٌ عن استرداد الاموال التي يُقرضُها لانها اموال الدول المساهمة. ومن هنا يضطرُ للتدخلِ وفرضِ برنامج تقشفي تحصيلي عندما يظهر له ان الحكومة المدينة سفيهةٌ ومُسرفة وقد لا تتمكن من التسديد. الا يحذرنا القران: " ولا تؤتوا السفهاء اموالكم". في البدايةِ يُوقعُ الصندوقُ على مُذكراتِ تفاهمٍ مع الدولة المدينة، لكنها تتحول الى إتفاقية إذلال لمن أذل نفسه بِسَفههِ خاصة عندما تطلب منه الدولة الحصول على شهادة حسن سلوك مالي حتى تقبل بنوك اخرى إقراضها.
لو ان الحكومة الاردنية استجابت بمصادقية ونزاهة لوصفة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، لكان وضعنا أفضلُ ومديونيتنا أقل .في النهاية اقول، ان ما يتمُ تحصيله من ايرادات ومساعدات يتمُ تفريغهُ في غربال. ما يشاهدُ على وجهِ الغربال هو جزءٌ يسيرٌ مقارنة مع ما يتسرب منه. هذه هي الموازنة العامة في الاردن.