خُذوا حِذرَكمُ ْيا رُكابَ الحافِلة
سامر حيدر المجالي
27-07-2009 12:37 AM
لأنَّ البطلَ كنترولٌ بسيطٌ مُهمَّش، ولأنَّ الحافلةَ مُهمَلةٌ والركابَ مَغلوبونَ على أمرِهِم، والرَّجُلَ غيرَ المناسِبِ وُضِعَ في محلِّ الصدارةِ فارتَبَطَ بِهِ مصيرُ الجماعة، كانت قصةُ أشرف الخمايسة أبلغَ في دلالاتها من ألفِ خطابٍ مشوِّق، ومقالٍ مُزوَّق، وبيانٍ مُنمَّق. للمرَّةِ الأولى أصبحَ المبنيّ ُللمجهولِ معلوماً، وأفصَحَتْ الأشياءُ عَنْ نفسِها بأسلوبٍ دراميٍّ يقتربُ من الحقيقةِ بغيرِ خجلٍ ولا استحياء. هذهِ الدراما المتفردةُ جمَعَتْ النقيضينِ وجهاً لوجه، الدناءةَ والشجاعةَ، وبينَهُما الرُّكابُ المحايدونَ في كلِّ شيءٍ حتّى في تقريرِ مَصيرِ حَياتهم؛ إذْ القَدَرُ َهكذا، تتوالدُ رموزُهُ منْ كلِّ احتمال، ويَصطفي لنفسِهِ أبطالاً مجهولين؛ يَصطفيهم لأنَّ الحقَّ والخيرَ والجمالَ، لَيسَتْ صنيعةَ الألقابِ والأنسابِ، ولا الشهاداتِ والأرصدةِ، بلْ هيَ صنيعةُ القلوبِ المؤمنةِ، والرجولةِ المتساميةِ، والنفوسِ المطمئنة.
واجبُنا أنْ نتحدثَ عنْ أشرف مثقال الخمايسة باسمِهِ الكاملِ عندَ سَردِ قصتِنا، وأنْ نُقلِعَ عَن الإشارةِ إليهِ بكلمةِ الكنترول، ليسَ انتقاصاً مِن مهنتِهِ الشريفةِ؛ وإنَّما رغبةً بتسميةِ الأشياءِ بمسمياتها الصحيحةِ، والناسِ بأحبِّ الأسماءِ إليهم، بعيداً عَن الألقابِ الفارغةِ والكُنى المضلِّلةِ، التي طالَما ألبَسْناها مَنْ لا يستحقونَها، وخَلعناها عَلى مَنْ يصغُرونَ أمامَ موقفٍ حقيقيٍّ أقلِّ بكثيرٍ مِن الذي تعرَّضَ لهُ أشرف أثناءَ قيامِهِ بواجبِه.
ماذا نستنتجُ مِن القصة؟! لِيَضَعْ كلُّ واحدٍ مِنا نفسَهُ مكانَ أشرف أوْ مكانَ أحدِ الرُّكابِ الهَلِعينَ حينَ أدركوا أنَّ قائدَ حافلتِهم قدْ أسلمَهُمْ لِلقضاءِ المَحتوم. لابُدَّ أنَّهم جميعاً أيقنوا أنَّ مصيرَهمْ واحدٌ.
ولا بُدَّ أنَّ أشرف لم يُفكِّر للحظةٍ واحدةٍ، بأصلِ وفصلِ الركابِ المتواجدينَ مَعَه؛ أَيْ أنَّهُ لمْ يَعمَدْ إلى تقسيمِهم إلى شرقيٍّ وغربي، وزيديٍّ وعَمْري. فالحياةُ والفَناءُ، والبقاءُ والتلاشي، لا تميِّزُ في عملياتِها بينَ الأصولِ والمنابت، ولا تنظرُ إلى التاريخِ والدرجةِ الاجتماعيةِ وبِطاقاتِ الصعودِ والهبوطِ ولونِ البشرةِ واسمِ الجدِّ السابعِ عشر. المواقفُ العصيبةُ يبرزُ فيها البعدُ الانسانيُّ مُقدَّماً عَلى كلِّ شيء، فينجو الجميعُ أوْ يموتُ الجميع، وفي مواجهتِها يكونُ الأهمُّ رباطةَ الجأشِ والحكمةَ والشجاعة، وإلا غرِقَ المركبُ بمنْ فيه، دونَ تمييزٍ أو استثناء.
ولا بُدَّ كذلكَ أنَّ الدنيا قدْ صَغُرَتْ في عيونِ الركابِ جميعِهم، وأيقنوا أنَّ تكالبَهم على الحياةِ وشقاقَهم ونزاعاتِهم ونعراتِهم حِمْلٌ ثقيل، لَوَّنَ أيامَهم بالسوادِ، وأرداهُمْ في مَهاوي العَنَتِ والشَقاء. في مثلِ هذِهِ اللحظاتِ تَصفو أرواحُنا ونَزِنُ الأحداثَ بميزانِها الحقيقيِّ، فَندركُ أيَّ ( قِلِّةِ عقلٍ) نمارسُها تجاهَ أنفسِنا وحياتِنا، وأيَّ ميراثٍ بائسٍ نتركُهُ لأولادِنا حينَ نصرُّ على أخْطائنا.
قارنوا مقارنةً دقيقةً بينَ رُكّابِ الحافلةِ في دقائقِ الهَلَع، وأولئكَ (الرُكّابِ) الذينَ جمعَهم ملعبٌ رياضيٌّ قبلَ القصةِ بأيامٍ قليلة. الأوَّلونَ تَساموا فوقَ كلِّ اعتبارٍ إلا ما يتعلَّقُ بحياتِهم ومصيرِهم. أمّا الآخِرونَ فمارَسوا فُجوراً غيرَ مسبوقٍ تجاهَ ثوابتِنا وقيمِنا. المركبانِ يسيرانِ نحوَ الهاوية، لكنَّ الأوَّلَ تميَّزَ بوعيِهِ لحقيقةِ موقفِه، أمّا الثاني فهوَ غائبٌ تماماً عَنْ حقيقةِ المصيرِ الذي يسيرُ إليه، فتمادى في فجورِه، وَوَجَدَ مِنْ حولِهِ مَنْ أصرَّ على التبريرِ والتقليلِ مِنْ شأنِ الذي حَصَل، وتحميلِ الطرفِ الآخَرِ وزرَ الفَعَلةِ الشنعاء، والحديثِ حديثاً نسمعُهُ منذُ سبعينَ عاماً عن فئةٍ مُندسة، لا نَدري متى اندسَتْ ولا كيفَ السبيلُ إلى استخراجِها... رُحماكَ يا الله، أيُّ غيظٍ هذا الذي يملأُ قلوبَنا، فيكبتُنا ويشفي صدورَ أعدائِنا حينَ يرونَنا على حقيقةِ أمرِنا. أيُّ تشظٍ هذا الذي نمارسُه! وأيُّ مصيرٍ ينتظرُنا!!
لقدْ كانَ هُناكَ مَنْ يُصرّونَ على جعلِ العربِ عربين، والقفزِ فوقَ دناءةِ الذي حَصَلَ، وتجاهلِ الطامَّةِ الكُبرى والمصيبةِ التي كشفَتْ عَنها نوعيةُ الهُتافات. كانَ يُهمُهم فقط الدفاعُ عنْ ثُلَةٍ مِن الجهلةِ والسوَقة، وَتركِ القبيحِ الذي تفوَّهوا بِهِ دونَ مُعالجة. كانوا يُمارِسونَ تَرَفَ المُعدَمين؛ أي البُغضَ الذي يسوقُهُ إلى وجدانِكَ منظرُ ذي الحاجةِ مُتكبراً مُتعالياً على مَن حَولَه. نحنُ ذوو الحاجةِ هؤلاء، فالأطماعُ تُحيطُ بِنا مِن كلِّ جانب، وخطابُ الطامِحين يتصاعد، مِن ترتيباتٍ لحلٍ نهائيٍّ عَلى ظهورِنا، إلى وَطَنٍ بديلٍ، إلى جُزءٍ مُكمِّلٍ للدولةِ التي يحلمونَ بتحقيقِها، إلى ما لايعلمُهُ إلا اللهُ بعدَ ذَلك. وَمعْ هذا يبقى التَرَفُ البغيضُ مُسيطراً علينا، والجاهليةُ والهمجيةُ وفقدانُ الوعيِ سماتٍ لا تفارقُنا.
أليسَ هذا مركباً يجنَحُ نحوَ الهاوية، لكنَّ ركابَهُ لم يدركوا بعدُ حقيقةَ الذي صاروا إليه؟ ألمْ يفقدْ هذا المركبُ قائدَيْهِ: العقلَ والحكمة؟
يبقى شيء وحيد يتعلق بالسائق؛ إذْ لَيسَ كلُّ مَن امتلكَ مَفاتيحَ اللعبةِ مؤتَمَنٌ عليها لأنَّ المسؤوليةَ أمانةٌ تَعلو على حِساباتِ الرِّبحِ والخسارةِ حتى لَوْ تَعلَّقَ الأمرُ بالروح. فالقضيةُ ليسَتْ قضيةَ مؤهلاتٍ فقط، وسائقُنا هذا لا يصلُحُ لقيادةِ المركباتِ حتى لوْ تفوَّقَ على مايكل شوماخر في فنونِ القيادة. وَقيسوا عَلى ذلكَ ما شئتُمْ مِنْ المسؤولياتِ وصِفاتِ المؤتَمَنينَ عَليها، فالحديثُ مُتَّسِع، والقَضيَّةُ رمزيةٌ هُنا، والشيءُ بالشيءِ يُذْكَر.....
وإلى لِقاءٍ.
Samhm111@hotmail.com