مدينة إربد مدينتي- وذكريات متفرقة
الدكتور محمود السلمان
28-12-2018 07:54 PM
عندما أدخل مدينة إربد وأنا قادم إليها من عمان، وأتجاوز بلدة الحصن، وأصل إلى بداية مدخلها أشعر بأن كل شيء هناك اصبح مألوف، وأنني أدخل إلى بداية كل حياتي، وأن الهواء بدأ ليكون كما يجب أن يكون، فهو جزء من الهواء الأول الذي دخل أنفاسي، فهي المكان الذي هو مكان مولدي، وفيها دفن أعز أحبائي. هؤلاء الذين يبقون هناك مهما بعدت، ومهما بعدت يبقى شيء يجذبني ويجعلني ابقى أنظر إلى حيث تكون إربد. عندما أدخلها فقط، وأصبح في قلبها، أتوقف عن البحث عن الجهة التي تكون هي فيها، فأكون حيث يجب أن أكون. هناك فقط تصبح الاتجاهات لا تعنيني، فمهما أدرت رأسي لا أرى إلا شيئا "ربداويا" وأعرفه كما لا أعرف شيئا آخر في حياتي. هناك أشعر بأنني في النقطة المركزية التي منها بدأ كل شيء. وهناك فقط أشعر أنني في بيتي الكبير، وأنني في أحضان الطبيعة التي منها أنا، وأنني أعرف كل شيء، لذلك تراني أبتسم عندما أرى صغيرا يعتقد أنني جديد، فلسان حالي يقول أنني رأيت الأرض التي تقف عليها عندما كانت مجموعة من السهول ويغرق فيها "كم قروق" (جورج كامب) ، وفيها رأيت بقايا حصاد اسمه "القصل" ، وبعد الشتاء كان ثمة شيء هنا قبل أن تولد أسمه "كدر" . أعرفه ويعرفني وتبتسم لي بعض بقاياه التي بقيت بين البيوت التي أقحمت نفسها ودمرت المكان وحاصرته بشيء محاط بالسياج اسمه "حاكورة"، وأحيانا "حديقة" تشبه القفص، وجعلته يشعر بالضجر، فلم يعد هناك "بليقي" يعرف موعده، ولا "جلتون" كان يكون بين السنابل الجميلة التي "خنقها" البناء ويحيط به زهرة حمراء صغيرة تكون عليه كعلامة واضحة وكأنها تقول لنا "تعالوا" أنا هنا وفي كل عام بنفس المكان والموعد سأكون، دون أن يدرك "جلتون" إربد العزيز، بأن الزمان خدعه، وأنه لن يكون في أي يوم جديد كما كان يكون، وسيكون هو الغريب، وربما المنقرض الحبيب، ويعود "البليقي" البريء إلى المكان في موعد هجرته معتقدا أنه سيجد ما كان يوجد كل عام، ثم يفاجأ بأن شيئا ابيض حجريا أصبح يحتل المكان، فلا يجد "قصل، ولا بقايا "كدر" يقف عليه، ولا شيء من بعيد "اسمه ماسورة الحي الشرقي ، ولا سهول ولا بقايا حصاد ولا فراغ جميل على مد البصر، إنما اشياء تضايقه كما تضايقني أنا، فيعود حيث كان، وربما يموت في منتصف الطريق ولا يعود من جديد، ويصبح المكان بالنسبة له غريبا تماما كما هو لي أنا الجديد، كما يعتقد ذلك الطفل البريء، ولكنني بداخلي لا ترى عيون قلبي غير تلك السهول الجميلة حتى ولو اختفت عن عيون البصر
هذا الطفل الذي يراني ويعتقد أنني الجديد، لم ير "الملعب البلدي" بتلقائيته كما رأيته أنا. رآه هو "بستاد" ورأيته أنا ملعب ترابي بريء-تماما كمن لعب عليه، يحاط بالحبال لفصل الجمهور عن أرضه، وتأتي "المداحل" في الصباح لتساوي أرضه ويصبح مناسبا للعب، ثم نرى أجمل اللاعبين: سامي سعادات، يرحمه الله، ووليد ابو الليل يرحمه الله، وموسى ابو عزيز العزيز. ثم نرى سهلا داخل سهل، هو "سهل غزاوي" ومنير مصباح وهاني حتاملة ويوسف زكي ومحمود خليف "الأزعر" الحبيب، وابو الهزاع أحمد بطاينة الذي كان أجمل وأروع شخصية ودفاع.وهذه أسماء التي أحببناها أذكرها على سبيل المثال لا الحصر بالتأكيد، فكل من كان معهم أيضا حبيب. ثم ننتقل إلى الملعب الصغير المجاور"ملعب كرة اليد" لنرى رمزي عريفج، ومازن حتاملة وصبحي عمر ومنصور اللحام وصالح سعيد وحسين الشرايرة وأحيانا الموهوب عدنان سهاونة وغيرهم ممكن تشتاق لهم روح طفولتنا.
إربد، إذا، تعنيني بكل شيء. ولذلك يجرح ذاكرتي أي شيء بها أقيم حيث يجب أن لا يكون. لا أحتمل أن يبنى شيء فيها على أنقاض معلم كان فيها، ولسكان إربد كان في يوم من الأيام اسم يتردد مئات المرات كل يوم. لا أتقبل فكرة أن نقول إنه هنا كان ذلك المكان، أو ذلك المقهى أو تلك المدرسة التي درس فيها فلان أو فلان. معالم المكان هي المكان، ولذلك يجب الحرص كل الحرص على تلك المعالم لأنها في الواقع هي المكان والوجدان. ليس عمرانا ولا تقدما أي شيء يكون على حساب ذاكرة المكان. ومن المحزن أن نعتبر أن جزءا من الواقعية يجب أن يعني بالضرورة هطول دمع أتى من قسوة الزمان الذي يبرره تدمير مكان بشيء اسمه عمران.
الدول تتقدم عندما يصبح لأي شيء من ذاكرة الوطن قيمة كبيرة مهما صغر. الدول تتقدم عندما يصبح ثمة إيمان راسخ بأن تراكم المعرفة والبناء على ما هو موجود هو سر النجاح، والدول تتقدم عندما يكون ثمة ادراك راسخ لأهمية التوثيق وكتابة كل شيء يتعلق بالمكان قبل أن يزول، وتصبح مطاردة المعلومة عمل مضني وشاق، وقد يكون بلا نتيجة. إذا فعلنا ذلك عندئذ سندرك بأن إربد لم تكن المدينة التي فيها نسب التعلم من أعلى النسب، إلا لأنها عرفت ومنذ القدم المدارس العريقة مثل مدرسة اليرموك ومدرسة النهضة وقبلهم مدرسة بحجم مدرسة العروبة في بداية القرن الماضي تقريبا. وفوق هذا وذاك، عرفت إربد "الريفية" وهو الاسم الذي كنا نطلقه على "معهد معلمين حوارة" العريق. كان المعلمون هناك يأتون إلى مدارسنا للتطبيق العملي قبل التعيين الرسمي، ويستفيدون من خبرة الكبار، وكنا نسميهم "أستاذ ريفي" نسبة إلى الاسم
"الريفية"، وهو معهد حوارة، لكونه وجد في الريف، حيث ما زلت أتذكر عندما كنا نذهب لزيارة بعض من درسنا "كأستاذ ريفي"، أن الشارع تقريبا من إربد إلى حوارة لا يوجد فيه شيء وإنما اشجار وسهول وريف حقيقي جميل. لذلك لا غرابة، ومدرسة التطبيقات التابعة للريفية هناك، أن نعتاد على أسماء كبيرة متفوقة تأتي إلينا في مدينة إربد من بلدة حوارة، والصريح والقرى الأخرى المجاورة. ما زلت أتذكر زملاء لي من هذه القرى الغالية، والذين كانوا قمة في التفوق والخلق والابداع
إربد العريقة كانت دائما حاضنة للثنائيات التنافسية الجميلة، التي تولد التحدي بروحه الرياضية المطلوبة. هكذا كنا نتخيل أو هكذا كنت أنا شخصيا أتخيل. فالنادي العربي يقابله نادي الحسين، والتنافس الرياضي الجميل كان دائما سر محاولة الناديين للنجاح والتفوق. ومدرسة اليرموك كان يقابلها مدرسة النهضة، وثانوية إربد الأولى كان دائما يقابلها مدرسة الأمير حسن. ومدرسة عمر المختار لطالما اعتبرنا طلاب مدرسة عمار بن ياسر المجاورة هم المنافس الحقيقي لنا.
ما يحزنني أن بناء مدرسة عمر المختار أصبح بناء مهجورا، وأن بناء مدرسة عمار بن ياسر كأنه لم يكن. في هاتين المدرستين درس خيرة رجال الوطن. في بعض الدول المتقدمة، رأيت بأم عيني كيف أن مدارس بهذه القيمة التاريخية محاطة بالسياج وتزار حتى يقال لنا بأنه في هذا الصف وعلى هذا المقعد جلس الشاعر فلان أو الروائي فلان أو المفكر فلان وغيره. التوثيق ضرورة من ضرورات احترام المكان والإنسان، وفيها حفظ لحقوق الرواد، ولولا الرواد لما كنا نحن.
التوثيق واحترام من سبقنا يخلق الإيمان العملي بالعمل المؤسسي، من خلال خلق فكرة التراكم في الإنجاز. التوثيق ومعرفة جذور الشيء تخلق الشعور بالانتماء وبأننا لسنا ورقا في مهب الريح لا تاريخ لنا.
إربد المكان والإنسان تستحق منا أن نعرف الأجيال الجديدة بكل شيء كان فيها. لا يجب أن تصبح مبرة الملكة زين الشرف، يرحمها الله، في شمال مدينة إربد شيء كانه لم يكن. فوق تلك المبرة كان يوضع "زمور الخطر" الذي يحذرنا من هجوم "صهيوني"، عندما كانت بوصلة تحديد الأعداء جدا صحيحة.
مدرسة الوليد بن عبدالملك، وخلفها "ماتور الكهرباء" الذي لم ينفك صوته يرافقنا في قاعة الدرس، حتى غدا جزء من المكان. المربي ابراهيم ابو خيط، يرحمه الله وعبدالوهاب بيبرس أسماء لا يمكن أن تغيب أرواحهم الطاهرة عني وانا أمر قرب المكان. يحزن قلبي أن البناء موجود، وعدم الاهتمام به موجود ايضا. لا يكفي أن أنقل مكان المدرسة إلى مكان آخر حتى أجدد، ثم اقطع التاريخ واشتت الذكريات واتنكر لأجمل الذكريات، والغي ما كان. تماما كما كانت أسماء المربي شفيق ابو رحمون وخالد شطناوي وأحمد باش ترافقني عندما أمر قرب مدرسة عمر المختار ولم أراهم ولا أرى إلا صمتا مخيفا في المكان الذي كان يوما يعج بنا ويفرح بنا ويبتسم لنا نحن عندما كان أجمل بناء.
كم أحزن وجداني أن أصطف بسيارتي قبل ايام بساحة فارغة، لأتفاجأ بعدها أنني أصطف في المكان الذي كان فيه مقهى ومتنزه الأريزونا. الأريزونا، ومقهى ومتنزه القيروان، الذي سمي دوار القيروان باسمه، والمنشية، هذه معالم كانت تتواجد كمثلث جميل في داخلنا. فأين هي ومن يعرفها من هؤلاء الذين يسيرون الآن في نفس المكان؟
ثمة شيء يستحق التوثيق في مدينتي، ويستحق أكثر أن احافظ عليه إذا أمكن، فلا يجوز تحت كل الظروف أن نسمي شيئا بناء أو عمران، وهو في الواقع يقوم على أنقاض ذاكرة المكان. فالمحل لا يقل أهمية عن الحال الذي حل يوما فيه واحتضنه وأقام فيه
ملاحظة
كم جروج هو الاسم المعرب للاسم الإنجليزي
George camp
وهو معسكر إنجليزي قديم وجد شرق إربد
القصل هو ما يتبقى بعد القمح بعد حصاده. ويكون كالقصب القصير، وبداخله كنا نجد "الدودة البيضاء الصغيرة والتي كنا نثبتها على كرازم فخاخنا البريئة ونحن أطفال كطعم لعصفور "البليقي"
الكدر هو التراب الذي يصبح صلبا بعد الشتاء وكأنه حجر
البليقي هو عصوفر صغير ذيله ابيض كان يأتي بعد حصاد القمح إلى سهول إربد الجميلة
الجلتون نبتة صغيرة كانت تنمو بين سنابل القمح ولها زهرة حمراء
ماسورة ضخمة للماء ممتدة شرقي إربد، وكانت تعتبر الحد الذي بعده تبدا سهول إربد الشرقية حتى تصل قريتي بشرى وسال الغاليتين