نبيل حداد .. ومرايا صِباه
معن البياري
28-12-2018 04:14 PM
عمون - يُصيب الكاتبَ في الصحافة السيّارة حرجٌ (شديد؟) عندما ينتقي شأنا شخصيا للكتابة فيه. وهذا هو حال صاحب هذه الكلمات، وهو يكتبُها، إذ في ما تتعلق بكتابٍ شائقٍ في سيرة كاتبه، طفولته وشبابه الأول تعيينا، فذلك إنما تعلّةٌ لإشهار تقديرٍ وإجلالٍ غزيريْن لصاحب هذه السيرة، يقيمان فيّ منذ كنت طالبا في دائرة الصحافة والإعلام، في جامعة اليرموك (شمال الأردن)، قبل نحو خمسة وثلاثين عاما، وكان أستاذي الأعزّ، في تلك الغضون، هو الدكتور نبيل حداد، مؤلف الكتاب الذي أسعفني بغبطةٍ ضافيةٍ وأنا أقرأه، وأنا أطوفُ في خمسينيات إربد وستينيّاتها، كما جال فيها واستدعاها معلّمي من آبار ذاكرته، ونثرَها في سرد مثيرٍ، في "إربد... مرايا الصبا، ذكريات من الخمسينيات والستينيات" (مؤسسة حمادة للدراسات الجامعية والنشر والتوزيع، إربد، 2018)، الكتاب الذي توقّف الحكي والقصّ فيه عند صيف العام 1967، لمّا أنهى أستاذي نبيل حداد الثانوية العامة.
ولمّا كان الكتاب عن مدينة إربد وجغرافياتها وفضاءاتها الإنسانية، وناسِها بكل تنوّعهم، قبل أزيد من نصف قرن، أكثر منه عن السارد، فقد يجوزُ لسائلٍ أراد أن يسأل، مستنكرا أو مستوضِحا، عن أي أهميةٍ لكتابٍ عن هذا كله، وإربد ليست نيويورك ولا الإسكندرية، ونبيل حداد أستاذٌ جامعي وناقد أدب، وليس من مشاهير النجوم. والإجابة أنها المتعةُ من بهجة السرد (وهذا عنوان كتابٍ نقديٍّ للدكتور نبيل حداد!) عن ناسٍ وأمكنةٍ وزمنٍ مضى، عن مقطعٍ اجتماعيٍّ وثقافيٍّ وسياسيٍّ، في واحدةٍ من مدن المشرق العربي الناهضة، في بلدٍ كان أهلوه، في تلك السنوات (وما زالوا)، يتعلّمون ويكدّون، ويعيشون الحياة بمغالبةٍ واعتداد. وأزعم هنا أن ما يفرشُه نبيل حداد أمام قارئ كتابه رائق المذاق، عن عالمٍ ريفيٍّ يتمدْين، في طورٍ كان الأردن فيه يتشكّل بلدا لا ثروةَ فيه غير إنسانِه، يُعين أصحاب الدّرْس في الاجتماع والثقافة. أما عمّا يصنعه "إربد... مرايا الصبا"، فيما يخصّ جنسَه كتابا في النوع السردي، فإن الرهافة الباهظة فيه تُحقّق له قيمتَه في ما لا غضاضة في تسميته أدب التذكّر، ضمن فن السيرة عن مقاطع أولى في التجربة والحياة، ومن علاماته العربية، مثلا، كتابا جبرا إبراهيم جبرا "البئر الأولى" (1993) وحازم صاغية "هذه ليست سيرة" (2007).
هذا عن الكتاب بإيجاز، وكل إيجازٍ مخلٌّ غالبا. أما عن نبيل حدّاد، فهو أستاذ التحرير الصحفي الذي علم جيلا من الزملاء، من خرّيجي أول قسم صحافةٍ في الجامعات الأردنية، وليعذرني قرّاء هذه الكلمات، إذ أشهر هنا اعتزازي بما تعلّمته من هذا الأستاذ البديع، متّعه الله بالصحة، وما تدرّبته على يديه. وللتنويه فقط، لمعلّمنا كتابٌ معتمدٌ في عدة جامعاتٍ "في الكتابة الصحفية.." (2015). لا صلة لهذا كله بالمعروف عنه، أستاذا رفيعا في النقد الأدبي، وصاحب مؤلفاتٍ في نقد نصوصٍ روائيةٍ وتحليلها. الأهم أنه مطبوعٌ بشغفٍ غزيرٍ بالسرد، وقد قالها مرةً في ندوةٍ تكريميةٍ لشخصه في عمّان إن السرد يكمن وراء كل ما يتّصل بوجدانه، "بل أزعم أنه هو الذي رسم معالم حياتي العملية بعامة، والوجدانية بخاصة..". وفي ظنّي أن نبيل حداد ما كتب "إربد... مرايا الصبا" إلا صدورا عن رغبةٍ بالتحرّر من فائض طاقةٍ في حواشيه على سردٍ كثيرٍ يودّ أن يبثّه في "لونٍ من الكتابة الخاصة"، كما آثر "تجنيس" مؤلَّفه هذا، والذي يجدُه قارئُه احتفالاً بالمهمّشين، وببسطاء الناس، وبالمكان فضاءً للبشر، وبالبهجات الأولى، وبتحسّس الدنيا البكر. ولأنه كذلك، فإن هذا القارئ، وإن كان من غير الإربديين، ولا الأردنيين عامّةً، سيحبّ سمْتَ الكتاب الموصولَ بأنفاس الحكاية الممتدّة، ذات الإحالات التي لا تتوقف، ما يجعله قصصا تلتمّ في روايةٍ متوزّعة الأنحاء والحواشي، عن مدينةٍ وحواري وشوارع وميادين، عن منازل ومعالم، وعن طفولةٍ ويفاعةٍ، عن مدارس ومعلمين، عن دور سينما ومطالعاتٍ أولى، وعن خيال فتىَ يتشكّل من قراءاتٍ ومسموعاتٍ ومشاهداتٍ ومعايشات، وعن وجدان هذا الفتى الذي يعبر إلى شبابِه مجبولا بحب الناس، بالغبطةِ الدائمةِ بهم ومعهم ...
وإذا ما عنّ لسائلٍ أن يستوضح عن مدعاة هذه السطور، أو يستهجنها، عن إعجاب معلقٍ في صحيفةٍ بأستاذٍ درس عليه قبل عقود، فأقول إنها قيمة الوفاء، وهي كافيةٌ لأن يُدعى هنا إلى صيانتها فينا دائما، وهذا أنا أحاول عندما أقرأ "إربد... مرايا الصبا"، وأذيع محبةً واجبةً بالأستاذ الأجلّ، نبيل حداد.