تقود ثلة محترمة من النساء الأردنيات الرائدات، حملة وطنية لمحاربة «التحرش» ومختلف أشكال العنف ضد النساء في بلادنا ... وهي حملة مقدرة وشجاعة، برغم محاولات «الشيطنة» والاتهامية التي تجابهها، وسط «تخاذل» بعض الجهات، التي عودتنا الرضوخ لأول موجة من «الأصوات العالية».
التحرش ظاهرة في مجتمعنا، تنتشر بشكل خاص في المدن والتجمعات السكانية الكبرى، وهي وإن كانت أقل بروزاً في المجتمعات الريفية المحلية، إلا أنه يصعب علينا الجزم بخلو هذه المجتمعات من هذه الظاهرة ... وفي ظني أن الاعتراف بوجود المشكلة، هو بداية الطريق نحو معالجتها وتخليص مجتمعنا من شرورها، أما «الإنكار» و»دفن الرأس» في الرمال ووضع النفايات تحت البساط، فتلكم أقصر الطرق لتفاقمها، لكأننا عن قصد أو من دونه، نعطي المتحرشين «مهلة سماح»، ونوفر لهم فضاءً آمناً، أحسب أن نساءنا وفتياتنا أحوج ما يكنّ إليه.
المجتمع الأردني يمر بطور انتقالي شديد الصعوبة، اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، وهذا يجعل الاعتراف بالظواهر الجديدة أمراً شديد الصعوبة على فئات من مواطنينا، ولقد تعودنا على سماع عبارات من نوع «عادات غريبة عن مجتمعنا»، و»ظواهر شاذة أو وافدة» إلى غير ما هنالك من عبارات تفصح عن رغبة أحياناً في عدم التصديق بأننا نتغير ونتحول، وتؤكد «حالة الإنكار» بدل أن تنفيها.
التحرش بأشكاله المختلفة، رافقنا منذ الصغر، بيد أنه أخذ يتحول في السنوات الأخيرة، إلى ظاهرة مقلقة ... شوارعنا ومدارسنا وجامعاتنا وأماكن عملنا، تروي قصصاً يومية عن تداعيات هذه الظاهرة وتمثلاتها ... ما يرتب علينا أن ننفض غبار الوهم والإنكار، وأن نعمل جادين على استئصال هذه الآفة، التي لا مجال في هذه العجالة للحديث موسعاً عن أسبابها وصيرورتها.
والتحرش بكل المقاييس جريمة، ويتعين علينا تشريعياً وأخلاقياً واجتماعياً أن نجرم المتورطين في هذه الأفعال النكراء، بعد أن نصوغ تعريفاً جامعاً للظاهرة، التي ما زال تحديد عناصرها ومحدداتها، يثير جدلاً وانقساماً ... ومن المعيب أن نلقي باللائمة عن هذه الظاهرة، على النساء والفتيات، فيتهمن باستدراج المتحرشين واستدعائهم ... فالتحرش لا تسلم منه فتاة، محجبة كانت أم غير محجبة، «مجلببة» كانت أم غير مجلببة، كما أنه لا يختص بعمر محدد، ولقد كنت شخصياً شاهداً على واقعة، يصغر فيها عمر المتحرش بسيدة عن عمر أصغر أبنائها سناً.
والتحرش ليس ظاهرة أردنية، والنساء في دول عربية وأجنبية يخضن نضالاً مريراً ضد الظاهرة ... حركة «MeToo» في الولايات المتحدة، أطاحت برؤوس كبيرة في عالم الفن والمال والسياسة والإدارة ... وفي تونس والمغرب اللتين تشبهاننا، نجحت النساء في استنان تشريع يجرم العنف والتحرش، وفي لبنان انطلقت حملة «مين الفلتان» في السياق ذاته، وفي فلسطين، ثمة نشاط نسوي مقدر، وكذا الحال في مصر وغيرها من دول العالم العربي.
والأرقام التي تأتي بها الدراسات، القليلة حتى الآن، تعطي دلائل مقلقة ... وما لم تنهض الحركة النسائية بدور أشد فاعلية وأكثر ثباتاً، وما لم تجد الإسناد من مجلس النواب، ولجنة الأسرة بشكل خاص، وما لم تلق التأييد الإعلامي والثقافي والتشجيع السياسي، فإن هذه الظاهرة قد تتفاقم وتحيل حياة فئات واسعة من بناتنا ونسائنا، إلى جحيم لا يطاق. (الدستور)