في رحاب الموازنة العامة (1)
د. عادل يعقوب الشمايله
25-12-2018 11:03 AM
هذا المقال هو الاول من عدة مقالات سأنشرها بشكل مُتزامنٍ مع موسم الموازنة العامة الحالي والذي يفترض أن يحمل الخير كما الغيث، لكن الوقائع تثبت تباعا أنه عاصفة عمياء مثل الموازنات التي سبقته منذ عقدين من الزمن، لم تُبقِ أخضراً الا أصفَرتهُ وصَفْرتهُ، ولا طُموحاً الا وخَوتهُ، ولا أملاً إلا وأسرتهُ.
يُركزُ مقالي هذا على تحليل بيانات الجدول رقم 6 المنشور على الصفحة رقم 8 من مشروع القانون المسلم لمجلس نواب الحكومة، واليكم ما توصلت اليه:
1-حققت الايرادات العامة من كافة مصادرها عام 2018 ، نموا موجبا بلغ 6% . هذه النتيجة كان من الممكن أن تكون مفرحة لولا أنها تتجاوز ثلاثة أضعاف نسبة النمو الاقتصادي. نمو الايرادات كان دائما موجبا وان كان بنسب متفاوتة.
2-زادت المنح الخارجية المحصلة "المعترف بها" عام 2018 عن المبلغ المقدر ب 30%. وعن المبلغ المحصل في عام 2017 ب 29%. هذا يعني أنه يتمُ سنويا تقديرُ المِنح بأقل من المتوقع فعلا، ليظهر عجز الموازنة اكبر، كمبرر لزيادة الضرائب بانواعها وزيادة الاقتراض.
3- زادت النفقات الجارية لعام 2018 عن العام 2017 بنسبة 8%. هذه نسبة نمو مرتفعة. والسبب هو النمو المرتفع للانفاق العسكري والامني. في حين أن نسبة نمو نفقات الجهاز المدني لم تتجاوز 1% فقط. يشكل الانفاق العسكري والامني حوالي 30% من إجمالي النفقات العامة، في حين يمثل إنفاق الجهاز المدني 24% من اجمالي النفقات العامة. الانفاق المدني هو انفاق الوزارات كلها كالتعليم والصحة والنقل والسياحة والبيئة والاتصالات والاشغال العامة والشؤون الاجتماعية ومكافحة الفقر والبطالة ... الخ.
4- أنفقت الحكومة 88% فقط من الموازنة الرأسمالية و 96% من النفقات الجارية حسب إعادة التقدير. ومن المحتمل أن يقل الانفاق الفعلي عن هذه النسبة. أي أن هناك وفر يقدر بمبلغ 242 مليون دينار.
5- زادت المنح الخارجية عن المبلغ المقدر لعام 2018 بحوالي 208 مليون دينار. كان المفروض ان ينخفض العجز في الموازنة بما يعادل الزيادة في المنح والانخفاض بالانفاق، وان لا تكون هناك حاجة لاقتراض مبلغ اضافي. المصيبة، أن العجز زاد بمبلغ 224 مليون دينار بدل أن ينقص.
- بالانتقال الى مشروع موازنة 2019 يلاحظ ما يلي:
1-قدر اجمالي الايرادات المحلية التي تشمل الايرادات الضريبية وغير الضريبية والمنح الاجنبية، بملغ يزيد ب 15% عن عام 2018. بتجزئة المجمل، يلاحظ أن الايرادات الضريبية ستزيد 16%. أما الايرادات غير الضريبية فستزيد بنسبة 13%. الايرادات الضريبية والايرادات غير الضريبية سيأتيان من جيب المواطن. السؤال الذي على الحكومة ونوابها في عمارة العبدلي أن يجيبوا عليه، كيف ستتحقق هذه النسب التي تتجاوز ضعف ونصف الزيادة التي تحققت هذا العام المثقل بالالام، وما يزيد عن ثمانية أضعاف الزيادة المتوقعة في النمو الاقتصادي (نمو الناتج المحلي الاجمالي) في ظل انكماش اقتصادي طال عليه الامد؟ وكيف سيتم جمع هذه الضرائب عندما تكون حصة الفرد من الناتج المحلي الاجمالي تتراجع لان نمو الناتج المحلي يقل عن نسبة زيادة السكان؟
2- هذه التقديرات العالية تعني أن الحكومة ستسحب المزيد من اموال الاردنيين التي أنتجوها في السنوات السابقة وليس في سنة 2018 فقط. أي أن الضرائب المباشرة وغير المباشرة ستسحب من المُدخرات وليس الدخول فقط. هذا التوجه لم يسبقنا اليه احد، مما سيعمق الانكماش الاقتصادي. المبلغ المطلوب جبايته لن يتحقق الا بتقديرات مبالغ بها لارباح ومبيعات الفعاليات الاقتصادية المختلفة، وزيادات سيعلن عنها في الرسوم والرخص، ربما ستوضع موضع التطبيق دون اعلان، اي تزريق. السؤال: كيف ستواجه الفعاليات الاقتصادية هذه العاصفة العاتية؟ هنالك احتمالان: الاغلاق أو الرحيل. في كلا الحالتين سيتم تسريح اعداد كبيرة من العاملين وستنعدم تقريبا فرص العمل أمام الذين يبحثون عن عمل. مما سينتج قفزة جديدة في نسبتي البطالة والفقر.
3- الزيادات التي اشرت اليها في الايرادات سيخصص معظمها لتغطية الزيادة الكبيرة في النفقات الجارية التي ستنمو بنسبة 9%. مع ان نسبة الزيادة الفعلية في عام 2018 عن 2017 لم تتجاوز 5%. ولما كانت مخصصات الجهاز المدني الذي هو الحكومة فعليا التي يتعامل معها الشعب لن تزيد باكثر من نصف بالمائة، فإنه من حقنا أن نتسائل عن حقيقة هذه الزيادة وليس مبرراتها المعهودة.
4- بلغت الزيادة المقدرة في الموازنة الرأسمالية 22% مع أن الانفاق الفعلي عام 2018 قل بنسبة 10% عن المقدر. هذا يعني اننا امام تقديرات مبالغ فيها وغير مسؤولة. زيادة النفقات الرأسمالية امر مرحب به في اوقات الكساد كالتي يعاني منها الاردن. ولكن نمط الانفاق وحجمه لا يستهدف الخروج من الكساد، وحتى لو كان يستهدف ذلك، فإنه لن يكون فعالا. أنا اعرف من خلال خبرتي السابقة في دائرة الموازنة العامة، انه يتم رصد المخصصات الرأسمالية بناءا على طلب الوزارات دون ان تقدم الوزرات دراسات كافية تبرر ذلك. وعادة ما تبدأ الوزارات باعداد الدراسات والمواصفات والعطاءات بعد اقرار الموازنة بشهرين، ولا تنجز الا في شهر 7 ثم تحال العطاءات في شهر 8- 9 . اي ان فترة التنفيذ الفعلي للموازنة الرأسمالية لا تتجاوز 4 أشهر. وعادة ما تعود معظم المخصصات للخزينة كوفر. اذا، هذا تلاعب بالارقام وذر للرماد في العيون. الحكومة تجبي اكثر من حاجتها مخالفة بذلك الدستور. الحكومة تجبي من الناس الاموال وتخرجها من التداول في السوق مما يعمق الانكماش، وبسبب التباطؤ في الانجاز والفساد، لا يعود للسوق معظم ما سحب من جيوب الناس. سنة بعد اخرى وبسبب هذا التجريف المستمر لن تبقى الا الصخور الجرداء التي لا تنبت زرعا ولا حتى عشبا. الشعب امام كارثة حقيقية.
5- على الرغم من الزيادة الكبيرة في النفقات الجارية، الا أن الزيادة المقدرة لنفقات الجهاز المدني هي نصف في المائة فقط. هذه النسبة المتواضعة تنذر أكثر مما تخبر. بناءا على هذا النسبة علينا أن نتوقع أمرين. الاول، أنه لن تكون هناك تعيينات. الثاني، ستكون هناك حملة إحالات وانهاء خدمة على نطاق واسع.
6- على الرغم من أن الحكومة لا تحول المبالغ المرصودة تحت بنود المياه والمحروقات والكهرباء للجهات المعنية كالمصفاة وشركة الكهرباء وسلطة المياه، الا أنها تواصل رصد المبالغ لها في الموازنة، لتضخيم الانفاق وتضخيم العجز وتبرير المزيد من الضرائب وتجميد الرواتب للعاملين والمتقاعدين. والسؤال اين تذهب المبالغ المرصودة وغير المحولة؟ الاسبوع الماضي أقرت الحكومة على لسان أحد مسؤوليها، بانه لم يتم تحويل مبلغ 800 مليون دينار من المستحقات على الحكومة.