السترات الصفر .. والخريف الأوروبي
د.خالد الربيع
23-12-2018 01:11 PM
من المؤكد أن فرنسا اليوم في أزمة بل أوروبا بأكملها في مأزق سياسي واقتصادي واجتماعي بدأ منذ صعود اليمين المتطرف في شرق أوروبا حتى وصوله إلى غربها، ومع تأجيل رئيسة الوزراء البريطانية التصويت داخل البرلمان للخروج من البريكست وارتدادات الأزمة الاقتصادية في عام 2008، ومع ازدياد الهجرات خاصة الاقتصادية منها، وانتخابات البرلمان الأوروبي في آيار 2019. إذن فهل نحن في بداية خريف أوروبي مهدت له السترات الصفراء بعد ربيع استمر لعقود؟
إن الظروف الاستثنائية في بعض الأحيان قد تسمح بظهور شخصيات استثنائية، فالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي جذب الشباب بخطابه وأوساط رجال الأعمال والراغبين في التجديد السياسي والمدعوم من اللوبي الأوروبي والإعلام والمصارف، والذي يعتبر من خارج اليمين واليسار التقليديين؛ حيث شغل عام 2014 وزير الاقتصاد في حكومة مانويل فالس الثانية، وقبلها عام 2004 بدأ العمل في وزارة الاقتصاد كمفتش بسيط، وفي أبريل 2016 أسس حركته السياسية "إلى الأمام"، ودرس السياسة والإدارة في أفضل المعاهد الفرنسية.
وانتخب في الجولة الثانية بنسبة 64% ليكون الرئيس الثامن للجمهورية الفرنسية الخامسة، وكانت المنافسة حادة بين مرشحة اليمين المتطرف مارين لوبان عن حزب الجبهة الوطنية، وإيمانويل ماكرون قليل الخبرة مرشح الوسط عن حزب إلى الأمام (أون مارش).
فقد راهن الشباب والفئات ذات الدخل المحدود والمتوسط على أن ماكرون بعد انتخابه سيقوم بإجراء إصلاحات اقتصادية لتخفف من حالة الاحتقان الاجتماعي وهو الذي بشّر "بنموذج اقتصادي متكامل"، لكن وكما يبدو فإنه قد فشل في الرهان وفي تحقيق وعوده خلال أول سنتين من حكمة حيث انخفضت شعبيته في آخر استطلاع إلى 26%. ونتيجة ذلك فقد جاءت انتفاضة "السترات الصفراء" في 17 تشرين الثاني في بلد "الأنوار والديموقراطية" والتي اندلعت على مواقع التواصل الاجتماعي وبدون غطاء ايديولوجي أو حزبي أو نقابي ومن خارج التنظيمات السياسية التقليدية مع انضمام مجموعة من نشطاء ينتمون إلى اليمين واليسار المتطرف بسبب ارتفاع ضريبة المحروقات ونقد السياسات الاقتصادية وعدم المساواة الاجتماعية في توزيع الثروات ومع تدني القدرة الشرائية ومحاولة بعض أقطاب السياسة مثل مارين لوبان "زعيمة الجبهة الوطنية" واليساري الراديكالي "جان لوك ميلينشون" تسييس الحركة ودعمها، وكان ماكرون يهدف إلى رفع الضريبة على المحروقات لاستخدام الطاقة النظيفة بدلاً من الملوثة فيما يسمى بالنقلة البيئية.
ويمكن تصنيف هذه الأزمة بأنها أزمة ذات ثلاث نواحٍ، فهي أزمة اجتماعية ترتبط بالقدرة الشرائية وأزمة ديموقراطية مع تمثيل سياسي غير كاف وأزمة أمة في مواجهة انقسامات كبيرة.
فرنسا التي تعاني من أزمة اقتصادية منذ 4 عقود، ويبلغ نموها الاقتصادي السنوي 1.3%، وبمعدل بطالة يفوق 9%، ومديونية فرنسا تساوي الناتج الإجمالي بنسبة 100%، وعدد الفقراء يتجاوز 10 ملايين نسمة، ويبلغ الدين العام 2500 مليار يورو، ونصف الناتج المحلي يأتي عن طريق الضرائب، ومع بوادر اندلاع أزمة اقتصادية قبل 2020، ولكون فرنسا عضو في الاتحاد الأوروبي، فلا بدّ أن تلتزم بسياسة التقشف في ضرورة الإبقاء على نسبة عجز ميزاني لا يتجاوز 3%، وقد يكون ذلك مبرراً لحكومة ماكرون لرفع الضرائب.
قد يحتاج ماكرون في الفترة القادمة إلى "سترة نجاة" لتجاوز الصعوبات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية؛ إن ضعف فرنسا هو ضعف الاتحاد الأوروبي، وقد راهن الكثيرون في أوروبا على وصول ماكرون لمساندة ميركل لاستكمال المشروع الأوروبي. يحاول ماكرون بعد انحسار مظاهرات السترات الصفراء للأسبوع الرابع التسريع في الإجراءات التي ذكرها في خطابه الأخير، حيث أمر بتعليق الضرائب على المحروقات وزيادة في العلاوات في حدود 100 يورو شهرياً لأصحاب الأجر الأدنى (أكثر من مليون شخص) وإلغاء ضريبة على المتقاعدين لمن يقل راتبه عن ألفي يورو شهرياً، وإلغاء الضرائب على الساعات الإضافية للموظفين والعمال وإعفائهم من رفع نسبة الاستقطاعات الاجتماعية 2019، وجميع الإصلاحات والإجراءات سوف تكلف خزينة الدولة الفرنسية أكثر من 10 مليارات يورو، وبالإضافة إلى فتح حوار مع السياسيين ورجال الأعمال والنقابات وممثلين المجتمع المدني وأصحاب السترات الصفراء لمناقشة ما تبقى من المطالب المقدمة من المحتجين والتي تتجاوز 40 مطلباً، وهي التي تحتاج إلى حوار مجتمعي لمناقشة ومراجعة سياسة الدولة داخلياً وخارجياً والتحول الضريبي والمواطنة والديمقراطية والهجرة والتحول البيئي وتنظيم قوانين الدولة.
إن انحسار المظاهرات وتراجعها لا يعنى أن الأزمة قد انتهت، فالكل يراهن على عامل الوقت، ومن المؤكد
أن السترات الصفراء سبقت القوى السياسية والحكومة بعد أن كانت مطالبها اقتصادية اجتماعية، والآن أصبحت المطالب ذات بعد سياسي مجتمعي كإقامة عقد اجتماعي ودستور جديد واستبدال النظام الديمقراطي القائم على التمثيل للأحزاب إلى نظام ديمقراطي تشاركي، ومع إقامة نظام فيدرالي لإدارة المدن والأقاليم، ومسألة الحوكمة في كيفية إدارة ألمانيا للبنك الأوروبي وبنك الاستثمار، بالإضافة إلى اشراك المواطن في بناء وصناعة السياسات العامة، والاستفتاء على بعض القضايا (كالنظام السويسري)، وحل البرلمان الفرنسي (الجمعية الوطنية) ورحيل الحكومة والخروج من دائرة اليورو.
كل التغيرات التي تشهدها الساحة الأوروبية تصب لصالح روسيا واليمين المتطرف والذي يركز على إشكالية الهوية الثقافية وتهديدات العولمة والهجرة والحفاظ على الذات والهوية الوطنية، وهو ما يعني الاصطدام مع مؤسسات بروكسيل وستراسبورغ. وقد حقق اليمين المتطرف مؤخراً إنجازاً تاريخياً في الانتخابات البرلمانية في إقليم الأندلس بإسبانيا بفوز "حزب فوكس" بالإضافة إلى تواجدهم في البرلمان في السويد وبريطانيا وفرنسا والنمسا وهولندا وإيطاليا.
يعتبر المجتمع الأوروبي "مجتمع ما بعد الحقيقة" هو مجتمع أفقي تفوقت فيه قيمة الانتشار حالياً "كوسائل التواصل الاجتماعي" على قيمة العمق التي سادت قديماً. فقد تتحول السترات الصفراء إلى حزب أو حركة تكون قريبة أو مشابهة لحركة النجوم الخمس الإيطالية (بقيادة لويجي دي مايو) المشاركة في الائتلاف الحاكم.
والسؤال: هل نحن على وشك حصول ثورة أو نهاية الجمهورية الفرنسية الخامسة؟ أم أن ما يجرى الآن ما هو إلا إرهاصات لحرب عالمية ثالثة أو نهاية للرأسمالية المتوحشة؟ أو صراع طبقي بنسخة معاصرة؟
فرنسا دولة القانون والحريات وحقوق الإنسان والديموقراطية، وما الاحتجاجات والتظاهرات الأخيرة إلا دليل على حيوية الجسد الفرنسي وقابليتة للتجديد.
قد يكون ماكرون شعاعاً من الأمل خلال الظروف الحالية التي تشهدها فرنسا بسبب العنف وفضائح الفساد، ويشابه ذلك الظروف التي ظهر فيها على المشهد السياسي الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت عام 1933؛ عندما انتُخب خلال أسوأ أزمة اقتصادية في تاريخ الولايات المتحدة وتمكن من تجاوز تلك الأزمة.
وربما تكون نهاية ماكرون كنهاية ديغول الذي كانت المظاهرات الطلابية عام 1968 سبباً في استقالته أو مارغريت تاتشر رئيسة الوزراء البريطانية التي قررت في التسعينات الانسحاب عندما أساءت إدارة الضرائب والاقتصاد الحكومي المحلي، مما دعاها لعدم الترشح لفترة ثانية، أو كالرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند (الاشتراكي) الذي انخفضت شعبيته إلى أقل من 10% وعزف عن الترشح لفترة ثانية، وكانت سابقة تاريخية تحدث لأول مرة في تاريخ الجمهورية الفرنسية الخامسة، أو قد يكون قادراً على استثمار الأزمة الحالية بنجاح ليمضي إلى الجمهورية السادسة مع التحول من سياسة ليبيرالية محضة إلى سياسية اجتماعية ليبيرالية (إعطاء ضمانات اجتماعية ملموسة)؟. (النهار اللبنانية)