هل يحق للنقابات ممارسة السياسة؟
د. عادل يعقوب الشمايله
23-12-2018 09:39 AM
تربعت النقابات المهنية على عرش السياسة، غير الرسمية، في الاردن بعد أن تم تحريم نشاط الاحزاب السياسية في الخمسينات من القرن الماضي. ثم تعزز دورها أكثر، أي النقابات، بعد حل مجلس النواب عام ١٩٦٧ . وقد استمرت هيمنة النقابات على العمل السياسي الشعبي حتى عام 1989. منذ ذلك التاريخ بدأ دورها يتلاشى تدريجيا حتى غاب تماما. الرجوع المفاجئ للنقابات، بمشاركتها في التحشيد على الدوار الرابع، ثم انسحابها من المشاركة بشكل مفاجئ أيضا، مع محاولة الابقاء على وجود اعلامي لها اصاب الكثيرين بالدهشة والصدمة.
للاجابة على التساؤل الذي يشكل عنوان هذا المقال، لا بد من الرجوع للدستور الاردني. تنص المادة 16 من الدستور على:" للاردنيين الحق في تأليف الجمعيات والنقابات والاحزاب السياسية على ان تكون غاياتها مشروعة ووسائلها سلمية وذاتُ نُظمٍ لا تخالف الدستور". يلاحظ من نص المادة، أن الدستور قد فرق ما بين النقابات والاحزاب السياسية.
وبالرجوع الى قوانين النقابات المهنية في الاردن، لا نجد فيها أي نص يسمح لها بممارسة العمل السياسي على أي مستوى. حيث يقتصر دورها على تطوير المهنة علميا واداءا واخلاقا، خدمة وحماية للمجتمع أولا، وللمنتسبين للنقابة ثانيا. كما يلاحظ من النص، ليس فقط، عدم وجود ترخيص للنقابات بممارسة السياسة، بل أكثر من ذلك، فقد حظر الدستور عليها الممارسة والمشاركة بمدلول النص " ..وذاتُ نُظمٍ لا تخالف الدستور". وحيث أن الدستور، قد شَرّعَ تأسيس الاحزاب السياسية، وأسس لوجود مجلس نواب منتخب، يمارس التشريع ومراقبة اداء الحكومة ومحاسبتها، والدفاع عن حقوق المواطنين، فان النقابات، لا تملك اي مبرر لتدخلها في الامور السياسية.
هذا الاستنتاج يجب أن تعرفه النقابات جيدا، وأن تعرف، أن سكوت الحكومات الاردنية خلال القرن الماضي، على دخولها المعترك السياسي، كان متعمدا لاستكمال دفن الاحزاب السياسية الى الابد. فقد لاحظت النقابات الفراغ السياسي فانتهزت الفرصة، وطرحت نفسها بديلا لملأ الفراغ. حينئذ، لم تعارض الحكومة هذا التسلل، لتمكين الشعب من التنفيسِ عن نفسه، ولإنها تستطيعُ في أي وقت إخضاع النقابات بإرجاعها الى دورها الاساسي دون عناء، كون ما تقوم به ليس قانونيا اصلا.
للاسف، أدى دخول النقابات العمل السياسي الى ثلاث خطايا بحق الشعب الاردني. اولاها، أنها أهملت واجباتها الاساسية التي أُنشأت من أجلها، فتشوهت المهن، وانتكس أدائها. كان من المفروض ان تكمل النقابات دور الجامعات فترتقي بمستوى منتسبيها من الخريجين بالتدريب وبالتاهيل وبالعقوبات الصارمة للمخالفين والفاسدين، وبنقل أخرِ الممارسات والاختراعات التي تحدث في الدول المتقدمة، مما يسهم بدفع المجتمع الاردني من حالة التخلف الى السير في ركب التطور. ونظرا لان العمل النقابي، أصبح سياسيا وليس مهنيا، وان مجلس النقابة يُنتخبُ على أساس ولاءاته وتوجهاته السياسية، والتي غالبا ما يوحى بها من خارج الاردن، كان لا بد لمجالس النقابات أن تحرص على استدامة ود اعضائها، بأن لا تراقبهم ولا تحاسبهم ولا تحفزهم ولا تطورهم، وان تدافع عنهم في الحق والباطل بعد أن بسطت عليهم عباءة القدسية والفوق قانونية.
الخطيئة الثانية نجمت عن كون نسبة عالية ومؤثرة من منتسبي النقابات كانوا من المنتمين للاحزاب الممنوعة، ونسبة غير قليلة أعضاء في الحزب الوحيد المسوح له وهو جماعة الاخوان المسلمين. هذا الواقع أدى الى إقتصار انتخاب مجالس النقابات على الحزبيين، أو الناشطين حزبيا المدعومين من الحزبيين، واحيانا من حكومات إقليمية أو منظمات إقليمية. بالنتيجة، تحولت النقابات الى منصات وابواق لتلك الاحزاب والدول والمنظمات، وانضمت الى قافلة المتاجرين بكوارث الامة ومن بينها القضية الفلسطنية، واحتلال العراق، والشيشان، وافغانستان والسودان والصومال والبوسنه. ونظرا لان الاحزاب الممنوعة والمسموحة كانت احزابا عقائدية وليست برامجية، لم تهتم النقابات بما يجري على الساحة الاردنية من تطورات سلبية في الاداء الحكومي الاقتصادي والاداري ولم تقدم اي بدائل عنها. كل ما كان يعنيها هو أن يسمح لها بالعمل، و ان يكون موقف الحكومة من القضايا القومية موافقا لموقف الاحزاب القومية، وكذلك موقفها من قضايا العالم الاسلامي التي تهم ألاخوان المسلمين، والجماعات الاسلامية.
أما الخطيئة الثالثة، فهي المساهمة في تسهيل عملية إخراج الاحزاب السياسية من ساحتها الطبيعية ومجالها الحيوي بموجب الدستور، وتعويد الاردنيين على عدم ملاحظة ذلك الغياب، الى حد شيطنة الاحزاب وان الاردن سيكون أفضل بدونها. بالنسبة للحكومة، كان موقفها يتلخص بانه، طالما أن النقابات التي تضم عشرات الالاف من الحاصلين على الشهادات الجامعية، تملأ الفراغ الديموقراطي الديكوري، وحيث أن مجالسها المنتخبة قادرة على تاجيجهم وتوجيههم وضبطهم وتهدئتهم وقت تشاء وحيث تشاء. فان التعامل معها والسيطرة عليها أسهل من التعامل مع الاحزاب. يضاف الى ذلك، سيطرة مجالس النقابات على اموال طائلة تمكنها من التنفيع والحرمان. المهم ان ما حدث، حال دون تطور التجربة الحزبية في الاردن ونضجها ووطننتها، مما ساعد في وصول الاردن الى ما وصل اليه من انحدار ومخاطر، بسبب تغول السلطة التنفيذية وتعمق الفساد في اجهزتها، وسيطرة الممثلين، واستبعاد القدرات والكفاءات عن ادارة الدولة.
لا تستطيع النقابات ان تدافع بعقلانية عن التخلف الذي اصاب المهن، ولا عن الاخطاء المهنية وضعف الضوابط الاخلاقية في ممارسات الطب والهندسة والمحاماة، التي يتناقلها الاردنيون وغير الاردنيين في الاقليم العربي إذ لا يجد المُتابعُ والمُقَيمُ لتاريخ النقابات أي انجازات إيجابية تحسب لصالحها، رغم كل الصراخ والشعارات التي ملأت اجواء المؤتمرات والندوات في صالات النقابات وفي الفنادق والشوارع والمساجد وساحاتها. على العكس، فشلت إدارات النقابات في إدارة النقابات، فتدهورت اوضاعها المالية، وضاعت حقوق المنتسبين، وطفت على السطح الاتهامات المتبادلة بالفساد المالي والاداري سواءا من الاعضاء المتضررين، أو ما بين المجالس المتعاقبة.
بناءا على ما تقدم، فانه قد آن أوان تطبيق قواعد الحاكمية الرشيدة في إدارة النقابات، والالتزام بالنص الدستوري وقوانين النقابات، والتخلي نهائيا عن التدخل في الشأن السياسي ومزاحمة الاحزاب ومجلس النواب والحراكات الشبابية. فاعضاء مجالس النقابات هم في الاصل مهنيون ولا دراية لهم بالسياسة والادارة الحكومية والاقتصاد. سنعمدكم أبطالا وطنيين إن أصلحتم ما أفسدته السياسة في نقاباتكم، وطورتم المهن واستعدتم مكانة الاردن الاقليمية التي أضاعها الطمع والجشع والغش، وانعدام المسؤولية والمساءلة عند الكثيرين من الاعضاء، واضاعها تحول أصحاب المهن العلمية المحترمة الى مجرد أمناء صناديق همهم جمع المال ولا شئ غير المال.