التجربة الرواندية في إنجاز مهمة مستحيلة
فتح رضوان
20-12-2018 06:15 PM
هل تصلح للمحاكاة في حالتنا الأردنية؟!
كل من نثق برأيه في الحالة الاقتصادية الأردنية يبشرنا أن حكومتنا تعلم أنها لن تجني قرشا واحدا من قانون الضريبة المعدل ولكنه أولا الانصياع لمتطلبات واشتراطات البنك الدولي للاستمرار في الاقتراض وحالة الإنكار الحكومية المزمنة لأي حل حقيقي ما حدا بأحد الكتاب المحترمين بعد أن فصل في الآثار المدمرة لقانون الضريبة المعدل ولا سيما الأثر النفسي في الناس وحركة الأموال والخسائر الفادحة في سوق الأسهم ما يهدد بانهيار السوق في خسارة قياسية لم تقل عن سبعمائة مليون دينار لغاية الان.
يجمع الشعب الان أن الحكومة تريد إذلاله وإفقاره عمدا أو جهلا وكلاهما ( العمد والجهل في هكذا حال لا يقل حجم جرم أي منهما عن الاخر ) وكل ذلك لسبب غير مفهوم حتى لو كان في ذهن دولة رئيس الوزراء والوزراء كل النوايا الطيبة، فالنوايا الطيبة دون معرفة عميقة تقود الى كوارث في أحيان كثيرة.
خبراء المال والاقتصاد يقولون أننا في طريق الإفلاس ماليا وهذا ليس إفلاسا من الناحية الاقتصادية إلا أن المدين العاجز عن فهم مصادر قوته وثروته سيكون المال والاقتصاد عنده بنفس المعنى فحتى نبسط المسألة لو كانت لديك بناية وأنت غير قادر على استغلالها أو تأجيرها فأنت مفلس ولو مؤقتا، وهذا بالضبط ما نعنيه بسوء الإدارة الحكومية والفساد الإداري الذي يقودنا حتما للإفلاس المالي وكل أنواع الشرور ومن أبرزها انعدام الثقة الشعبية التي تقود حتما من يملك قدرة على جلب المال أن يهرب من واقع يطمس قدرته ويشعره بالعجز.
قانون الضريبة المعدل ليس فقط طاردا للاستثمار وإنما يمكن رصد ظاهرة هروب الطاقات الحقيقية من البلد سواء استثمارات أو كفاءات أو عائلات لديها أموال تعيش بها حياة محترمة في أرقى دول العالم.
وفي تناقض فاضح مع وضعنا الاقتصادي العام نرى تماهي الشعب بكل أسف مع حالة الإنكار والانتحار الحكومية فهنا خيمة عرس كلفت عشرة آلاف دينار وعلى بعد مائة متر منها فقير بات أطفاله دون عشاء، هنا نتحدث عن بيئة خصبة لمجتمع كراهية سيأكل بعضه بعضا لا قدر الله.
وفي نفس سياق التناقضات المرعبة، نحن في المراتب الأولى في الاستثمارات الأجنبية في دولة الإمارات الشقيقة فرؤوس الأموال عندنا فائضة جدا عن حاجة البلد للاستثمار فلا بأس باقتناص الفرص في أكثر بلدان العالم ثراء، ليس فقط في الإمارات بل في أمريكا وبريطانيا والصين وغيرها الكثير الكثير.
حتى فقراؤنا ليسوا أقل لا معقولية من الحكومة فهم يدخنون المارلبورو حتى لو على حساب خبز أطفالهم.
نقرأ في الصحف أخبار الاقتراض بشكل متواصل فلا يعقل أن تسبقنا لينان في حجم الاقتراض وهي بلد الحرب الأهلية التي استمرت خمسة عشر عاما وعانت من الاحتلال والحصار الاسرائيلي والتدمير شبه الكامل لأحياء في عاصمتها - الفيلم الهندي الحكومي يقتضي الوصول بسرعة قياسية الى حجم اقتراض يساوي ثمانين مليار دولار في بضع سنين من الان كما في لينان.
مسؤولونا قادرون على تفسير كل حدث والخروج من كل مأزق تماما كما يفعل بطل فيلم هندي فحتى لو سقط بطل الفيلم من طائرة فسوف يصل الأرض واقفا على قدميه مطلقا النار في كل اتجاه للتصدي للأعداء، هكذا بالضبط تتصرف حكومتنا، فهي تقضي على أي مناعة اقتصادية للمجتمع وتحارب كل طبقاته ثم تتوقع أن برامجها لجباية الأموال وإفراغ جيوب الناس ستنجح في إنعاش الاقتصاد ودعوكم من كلام من أتقنوا وتفننوا في الاستعراض لمنجزات لو كانت حقيقية لصرنا بمستوى الدول الإسكندنافية.
دعونا بعد هذه المقدمات نحلق في موضوع المقال.
أتذكرون رواندا، لا بد أنكم تذكرون أنها شهدت حربا أهلية طاحنة في تسعينيات القرن الماضي خلفت حوالي المليون قتيل حتى وصل الأمر أن يقتل الجار جاره ومع ذلك وفوق كل هذه الدماء تصالحوا بطريقة عبقرية فيما يشبه سلسلة أفلام مهمة مستحيلة لتوم كروز أما نحن فحكوماتنا مع قدراتها المستحيلة لا تستطيع حتى التعدي على مقدسات خطابها الإعلامي في الإنكار منذ أربعين عاما ، فمنذ أربعين عاما وحكوماتنا تحقق الإنجاز تلو الإنجاز بحيث لو لم نكن نعيش الواقع على أرض البلد لاعتقدنا أننا في الطريق لاختبار الحياة على ظهر كوكب المريخ.
عودا على قصة رواندا حيث وصل المتهمون بالقتل هناك الى مئات الآلاف وأدرك عقلاؤهم أن الحل بأي طريقة تقليدية هو انتحار شعب بأكمله وانتهاء دولة فأين المحاكم التي ستتسع لهذا ألكم من المتهمين وما الفائدة من الانتقام فاجترحوا حلا لم يأخذوه من خبراء المحكمة الجنائية الدولبة ولا من فرنسا ولا من بريطانيا ولا من أمريكا ولا من خبراء البنك الدولي.
قرروا بكل بساطة أن يتصالحوا بناء على أعراف قبلية فيجتمع الجناة وأهالي الضحايا ويعترف القاتل ويسامحه أولياء الضحية وتحصل عائلة الضحية على تعويض ما حسب المتاح، والنتيجة كانت بكل بساطة، تحقيق أعلى معدلات النمو في العالم وبيئة جاذبة للاستثمار وشعب طموح مثابر بعد أن كانوا يقتلون بعضهم بعضا في الشارع، هل تعتقدون أن العالم المتحضر كان سيصل بهذا الشعب الى هذه النتيجة ولو بعد ألف عام ومن هنا فالقادم من وراء البحار لن يحل مشكلتنا ، افهمي يا حكومتنا فشعبنا هو من يحل مشكلته وليس كل خبرائكم أصحاب العيون الزرقاء. يا أيها الناس حين نقرأ ما حققته رواندا نصاب بالذهول كيف أصبحت أرض المذابح من أعلى دول العالم نموا وعاصمتها كيغالي من أجمل من مدن العالم.
كل ما نريد قوله أن هناك حالات واختلالات بل جرائم لا يحلها القانون ولا نصائح مؤسسات نظام عالمي شبه منهار فكفى ناطقي الحكومة تشبيحا أن آلاف قضايا الفساد في المحاكم فنحن نحارب الفساد منذ ثلاثين عاما وليتنا لم نفعل فقد تحصن الفساد وتعلم كل الدروس في التحايل على القانون، وأعتقد أن لدى الحكومات المتعاقبة ورؤساؤها كل التفاصيل.
تقول الناطق باسم الحكومة معالي جمانة غنيمات بأن هناك أكثر من ألف ومائتي قضية فساد منظورة أمام المحاكم ويسرني أن أخبرها بأن رقمها متواضع جدا ولا يمكن أن يعكس ما يتداوله ملايين الأردنيين من قصص فساد وإفساد.
افهمي يا حكومتنا أنك لو حشدت كل محاكم العالم فلا فائدة إن لم يثق الشعب بما تفعلين.
الحالة النفسية التي يعيشها الناس توازي في ضررها مديونية الأردن. فأول خطوة في طريق التغيير هي الاعتراف الحكومي بالأخطاء المتراكمة منذ عشرات السنين، ثم جمع الناس على برنامج عمل وطني ينتج عن مؤتمر إنقاذ وطني بقرارات ملزمة ومتابعة شعبية ورسمية، عندها سيضحي الفقير والغني من أجل الوطن وسوف نستعيد الثقة لدولتنا وحكومتنا.
صرنا نسمع البلد واقعة في كل مكان.
من يقول بأن المأزق الذي نعيشه يحله القانون واهم، فقضية بسيطة بين اثنين تأخذ في المحاكم عندنا سنوات فما الحال في قضايا واتهامات وعدم ثقة متبادل بين الشعب وكل الحكومات المتعاقبة، كم سنستغرق من وقت لتحقيق العدالة وتطبيق القانون ، وهل لدينا كل هذا الوقت الفائض.
ألسنا حتى بمستوى رواندا، أين الحكماء والعقلاء والأعيان في بلادنا.
لماذا لا يكون هناك مؤتمر إنقاذ وطني بعد سريان قانون العفو العام وتكون فيه المبادرات ذات الجدوى ملزمة للحكومة ، لماذا لا نفعلها، فليتواضع أصحاب القرار ولا تأخذنهم العزة بالإثم، فوالله العظيم لو حدث لهذا البلد مكروه فسيعاني من ظن نفسه محصنا بأمواله وسلطانه أكثر من الفقير ألف مرة.
من الجدير بالذكر هنا أن حالة التيه التي تعيشها الحكومة والشعب والأردني هي جزء من خطة كبرى يجري تنفيذها لإعادة تشكيل خارطة المنطقة ولكن هذه الخطة ليس نجاحها قدرا حتى نعذر الحكومة وصاحب القرار ، فأولا هناك رب العالمين الذي قال في كتابه ( ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين)، وثانيا فهذه الخطة تتلقى ضربات موجعة في الكونغرس الامريكي وغزة والضفة وشرق الفرات وثالثا فهذه الخطة هي مخطط اليمين المتطرف أمريكيا واسرائيليا وتحت الضربات التي يتلقاها هذا المخطط وحتى من قبل الدولة العميقة في أمريكا فلماذا نعتقد أننا ننتظر قدرا لم يجرؤ شياطينه حتى الان في الإفصاح عنه فكأنهم يعلمون أن مخططهم سيلد ميتا ولذلك ترى استمرار الفوضى في منطقتنا ليس له أي سبب منطقي أو مادي.
إن حالة الاستسلام الرسمية والشعبية لمخطط خبيث لا إجماع عليه حتى في دوائر صنع القرار شرقا وغربا يثير الريبة والاستغراب وكأن صناع القرار لدينا يعتقدون أن امريكا تحيي العظام وهي رميم والصحيح أن أمريكا تحترم وتتعامل مع الأقوياء، لأنها تعرف أن مصالحها في النهاية مع الأقوياء.
من أجل ذلك لا يمكن هزيمة دولة متحدة مع شعبها وهذا ما يجب أن تبنى عليه الاستراتيجية الأردنية في التعامل مع الواقع الراهن.
النظام لدينا كفؤ وفعال حين يراد تفعيله فهل لا يزال لدينا ترف الوقت للانتظار.
فليجتمع الاْردنيون على برنامج إنقاذ وطني يتنازل فيه الجميع لمصلحة الوطن فلو استعدنا نسبة مقبولة مما خرج من البلد من أموال سواء بطرق مشروعة أو غير مشروعة لانتهى صداع عجز الموازنة المزمن فليس صعبا إقناع الكل الوطني أن مصلحة الجميع في تعافي الأردن، أما مقولة البلد واقعة فهي جنون، فلماذا نستغرب حين يروي المؤرخون أن المغولي كان يجمع الأسرى العرب في بغداد ويقول انتظروني هنا لآتي وأقطع رؤوسكم فينتظرون قطع رؤوسهم بكل مهانة واستسلام.
فهل سننتظر حتى يخبرنا البنك الدولي بأننا أفلسنا ولم يعد لدينا قدرة على السداد.
الاْردن ليس مفلسا وليس عاجزا ومن يريد حشرنا في هذه الزاوية فليعلم أنه أشد إخلاصا لإسرائيل من بن غوريون في زمانه وأشد غباء من نتنياهو الذي يعتقد أنه يعمل من أجل إسرائيل وهو أنشط من يعمل من أجل إفنائها.
نريد مؤتمر إنقاذ وطني بأجندة لا تقل بنودها عن التالي:
- تحديد العلاقة مع فلسطين بعد التحرير أو الاستقلال سواء أتى هذا الاستقلال سلما أو حربا، لماذا ننتظر بمذلة مكرمات نتنياهو ويمينه المتطرف، فتحديد هذه العلاقة قانونيا ونهائيا سوف يجلب للأردن ليس عشرات المليارات فقط بل استقرار وثقة في المستقبل وانهاء قصص المزاودة والمراوغة في دور الأردن في القضية الفلسطينية فحدود سايكس بيكو ليست مقدسة وإسرائيل أعجز من أن تحمي نفسها من فلسطيني أعزل حتى تقرر مصير الأردن.
- إعادة الأموال المسروقة بطريقة تحفظ كرامة الناس فالقصة ليست انتقام في مقام وأولويات إنقاذ وطن.
- البحث في آليات عقاب من يفرق بين أبناء البلد على منصة الأصول والمنابت ونقول لمن أخرج مصطلح كبار البلد، أنقذ بلدك ولا تفرق بين أبنائه حتى تصبح كبيرا، أم أنكم يا كبار البلد تريدون الكبرة على خازوق كما يقول المثل الشعبي.
- تفعيل اللامركزية الإدارية وإعطاء صلاحيات تشجيع الاستثمار لمستويات معقولة في السلم الإداري وإعطاء الحق للمحافظين في إعطاء رخص الاستثمار في مناطقهم بالتنسيق فقط مع أصحاب العلاقة المباشرة دون تدخل رئاسة الوزراء والبيروقراطيات الفارغة وتصنيف المحافظات بناء على القدرة على جلب الاستثمارات، وذلك حتى يتنافس أصحاب القرار في مناطقهم في جلب الاستثمار واعتبار ذلك مقياس النجاح.
- تحديد القضايا الجنائية والجنح التي تستحق التوقيف فلا نريد عودة السجون للامتلاء بعد أشهر قليلة من قانون العفو العام.
- تحصين الصحافة الاستقصائية وحمايتها وتمويلها لتشجيع الجمهور الصحفي في كشف الجرائم وإرساء قواعد لجعل الالتزام بالقانون ثقافة.
- حماية الصناعة المحلية بنظام ضرائب متصاعدة على كل ما يمكن صناعته محليا وتشجيع الاستثمار في الصناعات الاستراتيجية والزراعة وإيجاد نظام تحفيز مالي لهذه الاستثمارات.
- إصلاح نظام التربية والتعليم ورفع قيمة المعلم اجتماعيا الى أعلى المراتب حتى يتساوى مع الطبيب والمهندس والوزير.
- ميثاق وطني في مصاريف النفاق الاجتماعي في الأعراس والمآتم وذلك تحت شعار : الفقراء أولى.
- ميثاق شرف وطني في استخدام وسائل التواصل التي خربت آلاف البيوت وفرقت آلاف الأسر وتسببت في حالات طلاق لا يعلم عددها إلا الله وتضيع على الأردنيين ملايين ساعات العمل يوميا.
وفي الخلاصة أنا أراهن على أن عقد هذا المؤتمر وحتى دون مبالغة تحقيق جميع غاياته أسهل بكثير من الذل المزمن أمام البنك الدولي وطلباته التعجيزية وتجرؤه على السيادة الوطنية وصولا الى إفلاس البلد لا قدر الله فمتطلبات البنك الدولي المذلة ليست قدرا لشعبنا الأردني العظيم، فقدرنا إرادة الله العظيم القائل ( الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا).