عن جمال عبدالناصر .. بالمناسبة
محمد خروب
23-07-2009 05:23 AM
يحضر الرجل، ليس فقط لأن ثورة 23 يوليو ارتبطت باسمه ولم ينحرف عن خطها للحظة واحدة حتى انتقاله الى رحمة خالق الكون في الثامن والعشرين من ايلول 1970، وانما ايضا، لأن جمال عبدالناصر الثائر والمنحاز الى الفقراء والشرائح المتوسطة والعروبي حتى النخاع في مواجهة الانعزالية والطائفية والمذهبية والعمالة للاستعمار، بأي صورة جاء أو خلف أي قناع تخفى، ما يزال حتى اللحظة مالئ الدنيا وشاغل الناس.
هناك من لا يزالون رغم ما مر علينا عربا (ومسلمين) من نكبات وكوارث وفواجع وهزائم، ما كان لها أن تحدث لو كان عبدالناصر حيا، أو أن الذين خلفوه حافظوا على مبادئ ثورة يوليو، نقول ما زالوا يصفـون حساباتهم مع عبدالناصر، في اصرار مريب على المضي قدما في محاولة مكشوفة لتشويه تاريخه المجيد واعتبار انفسهم ضحايا نظامه الذي ينعون عليه ديكتاتوريته وقمعه فيما هم، كانوا سابقا وما زالوا، يعقدون تحالفات معلنة مع انظمة يصعب على منصف أن يصفها بغير الاستبداد والعسف والرجعية، بالمفهوم الاجرائي الذي كان عبدالناصر يطلقه على تلك الانظمة التي من أسف تمددت وانتشرت ثقافتها المتخلفة وزاد نفوذها، وهؤلاء ايضا يتوسلون سياسات ومقاربات واصطفافات لا تصب في معظمها، إلا ضد كل ما هو تحرري وتقدمي ومنصف، سواء تجاه المرأة أم في الانحياز لقضايا حقوق الانسان ودولة القانون والمؤسسات، بدليل أن العنف الكلامي والمادي هو وسيلتهم لنشر افكارهم او الوصول الى مبتغاهم.. لكنهم في الآن ذاته ورغم هجومهم المتواصل والمحموم على عبدالناصر الشخص والثورة والتاريخ والحضور، ليس فقط بعد موته وانما ايضا وهو في سدة الحكم، يعلمون انهم لم يحصدوا سوى الخيبة، لان ما يقومون به ليس نقدا او محاولة لتصويب الأمور او الدخول في مناقشة فكرية او سياسية تتوخى معرفة اين اخطأ ناصر (وهو بالتأكيد اخطأ وربما وقع في خطايا) وأين اصاب (والتاريخ ووقائع ايام العرب والمسلمين تؤكد كما ان الرجل كان على حق كما كان صادقا).. لكنهم لا يؤمنون اصلا بثقافة الحوار ولا يقيمون وزنا للقراءات النقدية والتحليلات العلمية المستندة الى منهج لا تكون تصفية الحسابات والمصلحة الحزبية والفئوية الضيقة هي المعيار، كما فعلوا وكما يفعلون.
يحضر عبدالناصر في 23 يوليو من كل عام لدى انصاره ومريديه واحبابه في طول العالم العربي وعرضه (لا احد ينادي اليوم بالعالم العربي بل يصفونه بالشرق الاوسط جديدا أو كبيرا لا فرق)، ويحضر لدى الذين عاشوا مرحلة الصعود الوطني والقومي والتحرري التي قادها برباطة جأش وشجاعة ورؤية سياسية وخصوصا اقتصادية واجتماعية تنهض على اسس من العدالة والانحياز للاغلبية العظمى من الجماهير المصرية والعربية بأفق اوسع واكثر رحابة من الفكر الانعزالي او التواق الى مرحلة ما قبل 23 يوليو، عندما كان الاقطاعيون والرأسماليون والكمبرادور ودائما الفاسدون هم المسيطرون على القرار والثروة والتوجه السياسي، فيما تلوذ الاغلبية الساحقة بفقرها ومرضها وتهميشها وبطالتها وسوء الخدمات المقدمة اليها، وكان هناك دائما من يروج لـ (النعمة) التي لا تتوقف عن الهطول على 95% من الشعب المصري..
يحضر جمال عبدالناصر مثل سطوع الشمس وبهاء القمر (وهنا لا نقرض الشعر أو نستعين بالمسكنات) كلما ازدادت الظلمة في المشهد العربي الرديء الذي تتواصل فيه الدعوات الى العقلانية والواقعية والاستفادة من دروس التاريخ (أي تاريخ يقصدون؟) التي تقول أن الكف لا يناطح المخرز، وأن اسرائيل حقيقة واقعة وأن المصطلحات العتيقة التي كنا نطلقها على اسرائيل كالكيان المغتصب، ودولة العصابات والدولة المسخ، لم تعد صالحة بل هي التي اوصلتنا الى ما نحن عليه وعلينا (يواصل هؤلاء الوعظ وادعاء الحكمة) أن نكون في مستوى العصر ولغته، التي تمجد الاساليب الحضارية كالحوار والمفاوضات ونبذ العنف وعدم الوقوع في فخ اللاسامية أو انكار المحرقة (الهولوكوست)..
هذا هو خطابهم وتلك هي وسائلهم ومقارباتهم، وفيما هم يواصلون الانزلاق الى مربعات الاوهام المترافقة مع التنازلات والتوسلات والصمت على وجه الخصوص، يعود جمال عبدالناصر، الخطاب والتاريخ والمنهج، الى المنصة بكامل الثقة والحضور والاطمئنان الى أن رفض الجمهور العربي المتواصل والعنيد لثقافة الاستسلام هذه، هي البوصلة التي ستهتدي بها الاجيال المقبلة..
Kharroub@jpf.com.jo
الراي.