من الطفيلة .. الراحل المفكر الدكتور عبدالعزيز عدينات وغيره
الدكتور محمود السلمان
17-12-2018 12:55 PM
ربما أمثال الدكتور المفكر والسياسي المخضرم وعالم الزراعة الكبير عبدالعزيز عدينات، والذي كان قد ولد في مدينة الطفيلة عام 1931، لا يغيبون عن بالي في كل لحظات التمني للوطن بالخير. ولكن ثمة مناسبات تجعل من حضوره لذهني بشكل أكبر تحصل بين الفينة والأخرى. وفاة الراحل الكبير الدكتور جميل البدور من هذه المناسبات المحزنة، والتي تجعل تذكر الدكتور عبد العزيز شيء لا بد منه.
فقد كان الدكتور جميل وشقيقه معالي السيد جمال من الأصدقاء المقربين للدكتور عبد العزيز يرحمهم الله جميعا.
وكذلك الأسماء التي ذكرها الدكتور صبري ربيحات في مقالته بمناسبة رحيل الدكتور جميل قبل ايام.
فقد سمعت من بعضهم عنه وسمعت منه عن معظمهم. يقول سعادة السيد جودت المحيسن، والذي كان نائبا عن مدينة الطفيلة في فترة الخمسينات, والذي كان قد ورد أسمه أيضا في مقالة الدكتور ربيحات الرائعة: أن الدكتور عبد العزيز رجل ذكي وصلب وكنت دائما أتوقع له مستقبلا كبيرا في الوطن. لقد قابلته في مرات عديدة وأنا نائب الطفيلة في فترة الخمسينات.
في الواقع سمعت من المرحوم الدكتور جميل كلاما مشابها، وكذلك من معظم من عرفوه في فترة الخمسينات، ومنهم خالد باشا الطراونه وعطوفة سلطي التل, والشاعر الإنسان أسد الصفوري.
لقد عشق الدكتور عبد العزيزمدينته في صغره وفي شبابه وكبره. لا اذكر مناسبة في الطفيلة-حزنا أو فرحا، إلا وكان الدكتور عبد العزيز من أول الحاضرين. كان دائما يعتقد أن حب الوطن يبدأ من حبك للمكان الصغير الذي ولدت به، والذي كان المكان الذي أوصى أن يدفن فيه. لذلك بالنسبة له كانت مدينة الطفيلة "العش"، حتى استخدم مصطلحه، الذي أوصى أن يدفن فيه. على الرغم من أنه عاش في فرنسا ثلاثين عاما، إلا أن طفيليته الجميلة والتي تتجسد برجولته وتواضعه وذكائه بقيت ترى في كل حركة فيه.
الطفيلة بلد الرجال الصلبة، رأيتها به ورأيتها بغيره، ولذلك لا غرابة بالنسبة لي أن تصبح كلمتي رجولة وطفيلة مترادفتين، حتى إذا ما قلنا "طفيلي" تحركت هذه المعاني الضمنية وتجسدت بالمتحدث في سياق الكلام. لقد فرض الدكتور عبد العزيز احترامه ومحبته على كل من تعامل معه.
وكيف لا تحب وتحترم رجلا يتصف بالرجولة والصدق والخلق والوطنية العملية التي يضحي من أجلها الإنسان بشيء لا يقل أهمية عن الروح، وهي مغادرة الأهل والأحبة لثلاثين عاما؟؟!، ومع ذلك بقي الأردن بكل تفاصيله، ومدينته الطفيلة هاجسه الأوحد. سألته في أحدى المرات، ما الذي جعله يعود بعد ثلاثين عاما ويترك بلادًا جميلة مثل فرنسا. كان جوابه، ملاعب الصبا وحب الأهل والعشيرة والوطن هي "الأنا" الحقيقية لأي عاقل- فكيف ينسى المرء نفسه؟؟!
لقد أحب الدكتور عبد العزيز الوطن ومدينته الطفيلة وناسها. لذلك كان يعمل كل جهده على لقاء أي شخص من مدينته عندما كان في بلاد الغربة. أخبرني عن سعادته الكبيرة في يوم من الأيام عندما أتى إليه وزير الزراعة التونسي، عندما كان يعمل الدكتور عبد العزيز مستشارا لوزير الزراعة التونسي في ذلك الوقت، وأخبره أن قريبا له سيزور تونس قريبا. وقد كانت مفاجأته أن الضيف ذاك كان السيد فرحان شبيلات يرحمه الله، ابن مدينته الطفيلة. وفعل الشيء نفسه عندما التقى أيام الغربة بالدكتور المرحوم جميل في مدينة القاهرة، وقد كان لا يتردد في السفر من فرنسا إلى بريطانيا في كل مرة يستطيع، للقاء قريب له كان يعمل ملحقاً عسكريًا في سفارتنا في لندن.
الدكتور عبد العزيز كان سياسيا مخضرما، وكان كذلك مبدعا في مجال تخصصه كدكتور مهندس في مجال الزراعة، في كل الظروف وفي كل مكان. فقد كان مبدعا عندما كان مديرا عاما للحراج وكان مبدعا عندما كان مديرا لمدرسة الربة الزراعية في الخمسينات من القرن الماضي وكان مبدعا عندما كان مدرسا في مدرسة الجبيهة الزراعية. فكما يقول السيد أحمد الحجرات، لقد كان مبدعا علميا وكان مبدعا إداريا، فلم يضبط مدرسة الربة الزراعية شخص كما ضبطها الدكتور عبد العزيز عدينات.
وهذا ليس بغريب عندما نعلم أنه من أوائل من حصل على الدكتوراه في الهندسة الزراعية في الأردن، وكان ذلك عام 1956، ومن أعرق الجامعات الفرنسية، الشيء الذي جعل معالي الدكتور نصوح الطاهر، الذي كان مفتشًا لوزارة الزراعة في ذلك الوقت، والذي يسمى أحد اصناف الزيتون بأسمه لعلمه الغزير (الزيتون النصوحي)،يوصي بضرورة التعامل مع الدكتور عبد العزيز وزميليه الدكتور سامي الصناع والدكتور هشام الرفاعي، معاملة خاصة تراعي مستواهم العلمي العالي عند التعيين.
حتى ايام المعتقل في الخمسينات في الجفر، كان المهندس الزراعي عبدالعزيز أول من بدأ عملية تحويل الصحراء في منطقة المعتقل إلى أرض زراعية مخضرة، كما يقول آمال نفاع، بينما كان رفيقه يعقوب زيادين يرحمه الله، الطبيب الذي عالج النزلاء والحرس، والدكتور خالد حمشاوي طبيبا للأسنان، يعالج ايضا النزلاء والحرس.
أما في فرنسا فقد ابدع ابداعا كبيرا، حيث كان الدكتور عبدالعزيز ممن اسهموا مساهمة كبيرة في تطوير زراعة الدراق وغيره، كما يقول العالم الدكتور سامي الصناع، وبعدئذ ولصفاته المتعلقة بالأمانة وقوة الشخصية والقيم العالية عين في منصب يوازي مدير الاقراض في بلدنا. ولكفاءته العالية، حصل على وسام رئيس الجمهورية الفرنسية في ذلك الوقت، فكان نموذجا للعربي والأردني في أجمل تجليات النجاح والتفوق. فلم يكن نعامةً هناك، بل كان صقرا عربيا أردنيا طفيليا يفرض نفسه.
عاد الدكتور عبد العزيز يرحمه الله، إلى الوطن، وقد كان يتنفس هواءه بطريقة تجعلك تلاحظ وكأنه يريد أن يعوض سنين لم يكن بخياره أن يكون بعيدا عنه.
إن أكثر ما كان يحزنني أنه واحد من الاشخاص الذين صدح صوتهم الطاهر بأعلى ما يمكن في حب الوطن في الخمسينات من القرن المنصرم، وعانى الكثير من أجل الوطن، وغادر وطنه وناسه وقلبه يدمي من أجلهم، ثم غادر الدنيا دون أن يكون هناك شارع صغير يحمل أسمه، مع أنه حمل كل شوارع الطفيلة والكرك وعمان والوطن بعمق قلبه، الذي لم يوجعه شيء أكثر من حب الوطن. الكرك التي تخرج من ثانويتها عندما كانت ثانوية الكرك-كباقي رجالها، مليئة برجالات الوطن، ومدراء ثانويتها رجال بوزن المربي فضل دلقموني وموسى الساكت يرحمهما الله، وغيرهما.
وهذا ليس بكثير على مدينة الكرك، هذه المدينة التي اختارها بيتر جوبسر كنموذج للمدينة السياسية التي تستحق الدراسة.
حب الوطن في قلب الدكتور عبد العزيز،هذا الذي لا نراه بالكلام وإنما بالسلوك والأفعال. لقد كان عزائي الدائم أن اشجار السرو في عمان وكل اشجارها التي أصبحت كبيرة، لا تعرف عندما كانت صغيرة إلا الرجال المخلصين من أمثاله. هذه الاشجار التي نستظل بظلها، هذه الاشجار التي تزين شوارعنا، هذه الاشجار التي نذهب في ايام الصيف في رحلاتنا لنستمتع بوقتنا، والمنتشرة بغاباتنا، تعرفه وتعرف أمثالة المخلصين من أمثال يعقوب السلطي ومحمد نويران وسامي الصناع،هؤلاء رواد حب الشجر في وطننا الحبيب. فقد غرس الكثير منها تحت اشرافه الوطني والعلمي عندما كان مديراً للأحراج، وكان بذلك اصغر مدير للأحراج، وثاني مدير لهذه الدائرة المهمة بعد المرحوم يعقوب السلطي. أي عام 1957. لقد كان عزائي أن أجمل اسم من الممكن أن نطلقه على شارع هو ليس ذلك الأسم الموجود في بدايته او نهايته وعلى السطح ويعرفه البشر. وإنما ذلك الاسم المحفور في جذوره ويعرفه الشجر. عندئذ يكون للمخلصين من أمثال عبدالعزيز كل النصيب.
لقد غادر الدكتور عبدالعزيز الدنيا والقرآن في يده، ولا تفوته صلاة ولا يستمع إلا إلى صوت الشيخ عبد الباسط. لقد واجه مرضه بشجاعة قل نظيرها، يرحمه الله.
وان كنت تناولت الدكتور عبد العزيز عدينات كنموذج من مدينة الطفيلة الحبيبة، ولكن يحضرني في هذه المقالة أسماء كثيرة أخرى تميزت وأصبحت قدوة لمعظم رجال الوطن. عطوفة السيد محمد عودة القرعان ليس ببعيد. ربما سمعت عن هذه الشخصية الكثير. ولكن المصدر الذي تشرفت أن استقي منه معلوماتي هو مصدر كان من أقرب المقربين الذين عملوا معه عن قرب، وهو عطوفة الدكتور سامي الصناع. فعندما كان المرحوم الشيخ محمد عودة القرعان مديرا للإقراض الزراعي، كان نائبه هو الدكتور وعالم الزراعة الكبير سامي الصناع، والذي أصبح فيما بعد مديرا للإقراض الزراعي، ومن بعد ذلك أمينا عاما لوزارة الزراعة. يقول الدكتور سامي الصناع: إنه في الفترة التي أصبح فيها نائبًا للسيد محمد عودة القرعان، قامت إحدى الشركات بتصميم مكتب فخم ليكون مكتبًا للمدير.
وبعد أن تم تجهيز المكتب، طلب السيد محمد عودة القرعان من الدكتور سامي لينتقل هو للمكتب الجديد، بدلا من أن ينتقل هو مع أنه هو المدير، قائلًا للدكتور سامي إنك أحوج لمثل هذا المكتب لكون أنت من يستقبل الوفود وبعض الأمور البروتوكولية التي ربما تتطلب مكانًا مناسبًا لاستقبال الوفود. ولكن الدكتور سامي هو نفسه أيضًا رفض، وبقي كل واحد منهم يجلس في مكتبه المتواضع، وكل واحد منهم يرفض الانتقال إلى مكتب فاخر كان قد صمم للمدير. فبقي المكتب فارغًا يرفضه الاثنان. ولذلك لم يكن غريبًا أن يخبرني الدكتور سامي بأن قدوته كان محمد عودة القرعان وأنه الشخص الذي أثر فيه.
وعندما يقول ذلك رجل وعالم بوزن الدكتور سامي الصناع، حفظه الله، هذا الكلام، عندئذ نستطيع أن نتخيل تلك الشخصية الكبيرة النادرة لرجل من مدينة الطفيلة الغالية هو محمد عودة القرعان.
الصحيح أبدعت الطفيلة، كما بقية مدن الوطن، في مد الوطن بالطاقات والعقول من رجال ونساء على مدار تاريخ الوطن، ولم يقتصر الأمر على المبدع من الرجال فقط. على سبيل المثال لا الحصر، السيدة والمربية الفاضلة الأستاذة عفاف العطيوي كانت من نساء الطفيلة المبدعات اللواتي كن معلمات في مدينة إربد في بداية الستينيات من القرن المنصرم، و في الوقت الذي كانت فيه مدينة إربد العزيزة هي من يرسل المعلمين إلى المدن الأخرى في المملكة. كانت قد حصلت تلك المربية الكبيرة على الدبلوم من معهد رام الله في تلك الفترة، والتي كان يعادل بها ذلك المعهد في تلك الفترة المبكرة كبرى الجامعات.
الطفيلة من المدن التي تحترم ضيفها، حتى يصبح الضيف رسميا واحد من أبنائها. فمثلا العلامة الكبير أحمد الدباغ، يرحمه الله، كان من الرجالات الذين اقاموا في الطفيلة فترة طويلة وقبل مدة طويلة ايضا، وساهم في الحركة الدينية والتعليمية فيها. أهل الطفيلة الكرام اصروا على اعتباره أحد رجالات الطفيلة، وليس ضيف أو مقيماً فقط، فعندما تناول الأستاذ سليمان قوابعة رجال الطفيلة الكرام في كتابه عَده واحدًا من ابنائها.
الطفيلة هي المكان الذي يتواجد فيه عائلات كافة افرادها من المبدعين وكل بعقليته المستقله وكل في مجاله ايضا. فعلى سبيل المثال لا الحصر، من عائلة السبول الكريمة، نجد من نفس العائلة رجال من نفس البيت وتربوا تحت نفس السقف ونجد منهم وزيرا للداخلية هو معالي جودت رزق السبول رحمه الله وشاعرا يعتبر بحق من أفضل من أنجب الوطن في هذا المجال وهو تيسير رزق السبول يرحمه الله، وشقيق أخر لهما كان من رجالات الوطن المهمين في فترة الخمسينات وهو شوكت السبول يرحمه الله. كان شوكت السبول من المقربين من الراحل الدكتور عبد العزيز ولطالما سمعت عنه منه كل الخير وكيف يكون الرجل رجلا في المواقف الصعبة. أما الشاعر تيسير السبول فهو كما يقول معالي الأستاذ محمد داودية: "من أهم من حمل سفينة الآدب الأردني لشاطئ التجديد بلحظة تراجيدية ما زالت متوقدة في ذاكرة كل من عرفه". وهو الرأي الذي يؤيده به الدكتور عبد الفتاح النجار.
تحية حب إلى وطني الذي هو مليء بأمثال الدكتور عبد العزيز وساهموا بكل اخلاص في تقدمه.
وتمنياتي لوطني الأردن بكل الخير والتقدم والامان في ظل حضرة صاحب الجلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين المفدى.