تُستخدمُ كلمةُ "عوام" على نطاق واسع من قبل رجال الدين. كانت الكلمة تطلق في القرون الماضية على المسلمين من غير الفقهاء. أما حديثا، فأصبحت تطلق على من لا يحمل شهادة جامعية من احدى كليات الشريعة. إستتبع ذلك، أن العوام لا يجوز لهم الحديث في أمور الدين. الامر لا يقتصر على الدين الاسلامي. في الادبيات السياسية الغربية، نجد ان الكلمة المقابلة لكلمة "عوام" عند عدد من الفلاسفة والمفكرين، هي كلمة "القطيع" Herd
هنالك عدة مدارس فكرية تُنظرُ لدور المواطنين في الحياة السياسية. سأتناول مدرستين منها. المدرسة الاولى، ترى أن المواطنين، ينقسمون الى فئتين: فئة " النخبة" وفئة "القطيع". تتكون فئة النخبة من الطبقة العليا في المجتمع حسب معيار الثروة. وبالتالي فإنها تقتصر على الاقلية الثرية وهؤلاء يعتبرون المتميزون. وظيفة النخبة المتميزة وضع السياسات العامة وسن التشريعات الناظمة لها، وإدارة شؤون الدولة.
اما الفئة الثانية فتضم بقية المواطنين الذين يطلق عليهم وصف "القطيع". هؤلاء لا يجوز لهم الوصول للسلطة، أو حتى المشاركة فيها بأي شكل من الاشكال. ولا دخل لهم بوضع السياسات والتشريعات لانهم غير مؤهلين لذلك، بل لم يخلقوا اصلا لهذه المهمة. إنه التدبير الالهي. فكل شخص مُسيرٌ لِما خُلق له. هذه الفئة مغلقة، والعضويةُ فيها تقتصرُ على التوريث، لهذا لا تجيز الانضمام اليها من خارج هذا الاطار، إلا، بِصعوبة بالغة، وعند إستيفاء شروط خاصه واستثنائية، وبما يخدم مصلحة للمجموعة الاصلية.
تقضي هذه المدرسة أن من واجب الحكومة، حماية النخبة المتميزة، من الاكثرية الهمجية. هذا يتطلبُ السيطرةُ، اولا، على عقولهمِ والتلاعب بها وتشتيتها. بل، اكثر من ذلك، يجب مهاجمة عقولهم وتدميرها كما تُهاجمُ الجيوشُ، الاشخاصَ والابنية وسائر الاشياء المادية وتدمرها. ثانيا، يجب تفريق جماعة العامة وتجزئتهم وإثارة وتغذية كل ما يسبب التنازع بينهم عرقيا، دينيا، مذهبيا، لغويا، ولون بشرتهم ..الخ، بدلا من اللجوء لاستخدام وسائل القمع المادية العنيفة للسيطرة عليهم. الشعار: دَعهمْ، كالنارِ يأكلُ بعضها بعضا.
تُنافسُ هذه المدرسةَ، مَدرسةٌ أخرى، ترى أن الشعب هو مصدر السلطات. إلا أن وضع السياسات العامة وإدارة الشأن العام، هو من اختصاص "الاحزاب السياسية" البرامجية المتنافسة. يترتبُ على ذلك، أن صياغة السياسات والتشريعات الناظمة لها، وتولي المناصب السياسية يقتصرُ على أعضاء الاحزاب، ومن خلال آلية الانتخابات الدورية. في حين يجلسُ بقيةُ الشعبِ على مقاعد المشاهدين في المسرح السياسي أو السينما السياسية، بعد أن يُدلي بصوته في صناديق الاقتراع. هنا ينتهي دوره. على الشعب "القطيع/ العوام" أن "يُوكل عنه الاحزاب" لا أن يستخدم سُلطتهُ مباشرة. فالعوامُ ليسوا "الاقدر على تقدير مصالحهم" كما يظنُون، أو كما يحاول المفكرون الشعبيون أن يقنعوهم به. قادة الاحزاب هم الاجدر والاكفأ على تقدير وادارة مصالح الاغلبية الغبية. كما أن من واجبهم، لإنهم الاذكى والاعقل والاوعى والابعد نظرا، حماية العوام من أنفسهم، لإن طبائعهم ومستوى تفكيرهم كطبائع ومستوى تفكير الاطفال عند تقدير المواقف والاستجابة لها. الاطفال يكسرون ألعابهم، والعامة ستخرب لعبة الديموقراطية. لهذا، اذا ما تركوا "يَصلونَ الى الحكم" من خلال صناديق الانتخابِ، فإنهم سيؤذون انفسهم ويؤذون الفضلاء.
وبهذا فان صفة "العوام أو القطيع" تُطلقُ على غير الناشطين سياسيا، بالمعيار التنظيمي المؤطر. هذه المدرسة تُخصصُ باباً، لا غير، أمام العوام، لدخول الحياة السياسية، هو الانتساب لاحد الحزبين، أو الثلاثة احزاب المرخصة والشرعية، والمشاركة الفاعلة فيها شريطة ان تكون لدى المنتسب، المؤهلات العلمية والخبرة العملية والنضج والانفتاح الذهني. من لا يقبل الولوج من هذا الباب، يدلل على أنه "يرتضي" أن يكون من العوام او القطيع الذي يصوت، ويفوض، ويحاسب، كل اربع سنوات.
في ضوءِ ما تقدم، يُمكن تفسير ما يجري في الاردن. من الواضحِ، أن وجهة نظر المدرسة الاولى، أي مدرسة النخبة هي المعمول بها، منذ إنشاءِ الكيان الاردني. ويجبُ عدمُ الانخداعِ بالمظاهر والديكورات، التي توحي بوجود "قبولٍ" بمشاركة شعبية جدية وفاعلة ولو جزئيا، في الشأن السياسي وإدارة الدولة. فمجلسُ النوابِ، لم يكن فاعلا في أي فترة من الفترات منذ أن "مُنحَ، كفخٍ " للشعب الاردني، بِحكمِ طريقة وصولِ أعضائهِ الى المجلس، والصلاحيات الممنوحة له في الدستور، وموقعه وأهميته النسبيةِ في "سِلسلةِ العمل التشريعي". ذلك أن مجلس الاعيان "المُشكلِ من النخبة" هو صاحبُ اليد العليا في إقرار التشريعات، اذ يُشكلُ الثُلث المعطل. فدورهُ ضمانُ عدم تمرير أي قانونٍ لا يتفق مع ما تريد السلطة التنفيذيه أن يُقر. رئيس مجلس الاعيان، هو "رئيس مجلس الامة" لأنهُ يرأس المجلس الاعلى، في حين أن مجلس النواب هو المجلس الادنى. هذا الموقع يمكن رئيس مجلس الاعيان، من ادارة وضبط والتحكم بأجندة "مجلس الامة.
يستنج مما سبق، أن من يحكم الاردن هم:
- الملك بواسطة مجلس الوزراء. الملك يختاررئيس الوزراء ويوافق على بقية اعضاء المجلس. أي أن صلاحيات مجلس الوزراء ليست اصلية، بل مستمدة من الملك حسب نص الدستور. جرت العادة على اختيارغالبية الوزراء من بين من يعتقد أنهم النخبة أو "يمثلونها" ولا دور للشعب في ذلك.
-مجلس الاعيان وأعضاءه في الغالب من النخبة ايضا، أو "ممن يمثلها". المجلسان: مجلس الوزراء ومجلس الاعيان حريصان على الحفاظ على الامر الواقع، وهو خدمة مصالح هرم النخبة.
في الختام، أودُ أن أُنبه، الى أن إدارة الدولة في الاردن، تتوزع الى "إدارتين":
-إدارة شؤون السياسة الخارجية والامن بكافة اطيافه، وهذه يتولاها الملك حصريا، ولا علاقة لمجلس الوزراء أولمجلس الامة بها. حتى وزير الخارجية يعتمد على وسائل الاعلام شأنه شأن بقية الشعب في معرفة حقيقة ما يجري.
-إدارة الشؤون الداخلية من تعليم وصحة وطرق وسياحة وجمع الضرائب وترخيص السيارات والمحلات، وتعيين الموظفين وانهاء خدماتهم. هذه متروكة لرئيس الوزراء والوزراء ضمن ضوابط وتوازنات وتحت رقابة وتوجيه الاجهزة الامنية والديوان الملكي. دور مجلس الوزراء لا يتجاوز دور مدير ومعلمي مدرسة ابتدائية. ويتعاملون مع المواطنين على أنهم تلامذة الصفوف الابتدائية. لذلك لآ يجب تحميلهم فوق طاقتهم. وظيفتهم تدريس المناهج المقرة ولا يستطيعون تغييرحرف فيها، حتى ولو تضمنت نصا أن القمر هو ابن المدرج الروماني.
أدى منعُ "كبار الموظفين" الذين يُسمونَ "رؤساء وزارات ووزراء"، من المشاركة في ادارة الشؤون السياسية والامنية، على "خلاف ما يزعمون" ، الى تفرغهم الكامل لتعقيد العمل الحكومي بالاجراءات والتعليمات والتفاصيل والاوراق والشكليات مما ينغص على المراجعين حياتهم. اي أنهم يبحثون عن ادوار تعطيهم مكانة اجتماعية وتستوجب تواصل الناس معهم وخاصة اصحاب الحاجات، وما يرافق عملية التواصل من نفاق وتبجيل ومنافع. لقد حولوا الوزارات الحكومية من "أجهزة خدمة مدنية" الى قلاع يتحصن فيها موظفون عديموا الكفاءة والاخلاص، يرتدون دروع وسيوف التعليمات لمنع الناس من الوصول الى حقوقهم. حتى عندما يكون طلب المراجع موافقا للقانون، يتم تعطيله بالمماطلة والتسويف والرفض. فالمسموحات ليست للجميع، والممنوعات ليست عن الجميع. القانون يتم تنويمه وايقاظه حسب شخصية المراجع.