هل الجماهير دائماً على حقّ !؟
د. محمود عبابنة
16-12-2018 12:33 AM
لطالما كانت الكتابة -بنثرها وشعرها- تعلي من شأن الجماهير ، فعبارات الشعوب والوطن والثورة والتظاهر هي التي تنتصر وتنال التصفيق وتستوجب التضحية والفداء، وما زال شعر ابو القاسم الشابي شعاراً لا يبور عند الحديث عن إرادة الشعوب والذي أنشد «اذا الشعب يوماً اراد الحياة فلا بدّ ان يستجيب القدر» ،إلا أنّ منطق التاريخ أثبت في كثير من المرات ان العديد مما سمي بالثورات والاحتجاجات لم تكن اكثر من مجرد تمرد لئيم من زمرة من نفس طينة الشعوب أو من طينة أُخرى مستترة امتطت صهوة الجماهير التي جرى التلاعب بعواطفها وبالتالي فإن الشعوب ليست دائما محقّة بالمطلق، فالشعوب التي اجتثت شجر البن المشهور وزرعت بدلاً منه شجر القات ليست على حق، والجماهير التي احاطت بقائد الثورة وملك الملوك، ثم ثارت عليه لتستبدل به مليشياتٍ وتنظيماتٍ قطّعت البلاد وافنت العباد، ليست على حق بالمطلق. تُهلّل الجماهير لعبارات الثورة والانتفاضة والمعارضة أَكثر من عبارات النظام والاستقرار؛ لأنّ الأولى هي لسان الجماهير، والثانية هي لسان السلطة الحاكمة والمستبدة التي ينظر اليها الناس شزراً، لذلك فاز (جون لوك) على (هوبز) في جولة صراع الجماهير مع السلطة.
على عكس العلوم البحتة، فإنّ قواعد العلوم الاجتماعية لا تفضي الى قوانين و قواعد مطلقة، ففي العلوم التطبيقية يمكن الاخذ بقانون الجاذبية لتفسير سقوط الشُهُب، وقاعدة ردّ الفعل المعاكس في الاتجاه المساوي في المقدار والمعاكس في الاتجاه لتفسير إقلاع الطائرة، إلا أنّ ذلك لا ينسحب على الظاهرة الاجتماعية التي لها قوانينها أيضاً ولكنها ليست مطلقة، فلا يمكن مثلاً أن نأخذ ان ظاهرة شُحّ المياه سببها فساد الحكومات ولا نلقي بالمسؤولية على شريحة من الشعب اقدمت على حفر آبار بدون ترخيص، كما أنه ليس خطأ المستثمرين بالقطاع الزراعي أن يطالبوا الدولةَ بالتعويض عليهم عند حصول الصقيع أو عدم نزول المطر، لكن المطلوب من الحكومات وضمن ولايتها العامة ان تضع يدها على الفئة المتنفذة الفاسدة وهي تمعن في نهب الثروة والموارد والانتفاع غير المشروع.
لن نغرق أكثر في فلسفة عدم براءة الجماهير أو إدانة الحكومات، فمنذ أيام والشباب الذين تحركوا بوازعهم الوطني البريء يعتصمون على الدوار الرابع مدافعين عن حقهم في العيش الكريم والخروج من الواقع المتردّي، مندّدين بقوانين جائرة تتعلق بضريبة الدخل وقانون الجرائم الالكترونية المبهم والغامض، وهم محقّون، ولكن التهرب من الضريبة وإعداد ميزانيات غير حقيقية التي يقوم بها جزء من هذا الشعب ليست مُحِقّة ولا مشروعة، واعتداءات جماهير الطلبة على المدارس ليست مُحِقّة ولا مشروعة، والاعتداء على الغابات الحرجية ونشرها وتقطيعها بالمنشار ليست مُحِقّة ولا مشروعة، الاعتداء على خطوط كهرباء الضغط العالي و استجرار الكهرباء مجاناً ليست مشروعة ولا مُحِقّة.
اقترن الفساد تقليديا بالحكومات ويجري غض الطرف عن نوع آخر من الفساد هو الفساد الشعبي الأخلاقي وهو لا يقل خطورة عن فساد رجال الدولة وشلل المصالح والتنفيع ومن هنا فان شعار تغيير النهج محق وصحيح ويحتاج إلى مشاركة بين الحاكم والمحكوم لتأهيل جيلٍ يتربى على قيم وثوابت اكثر نقاءً و رشداً.
لم تعد الجماهير على دين ملوكها، بل على دين وسائل التّواصل و الميديا بمختلف أشكالها ، ومن السّهل توجيهها وبرمجة مشاعرها وعقولها، كانت الخطابة الوسيلة المُثلى للّعب على وتر الجماهير التي قد تتغيّر بين ليلة وضحاها، فعندما تحدّث أنطونيوس بخطبته في أعقاب «خطبة بروتس» الذي برر طعنته النجلاء في ظهر القيصر و كسب ودّ الجماهير ونال لقب البطل و التصفيق والتعييش لبرهة وجيزة لم تستمر، فسرعان ما انقلب عليه النّاس وثاروا ضدّه عندما تفوّق عليه انطونيوس بخطبته المؤثّرة «خطبة أنطونيوس» والتي خدّرت عقولهم واندفعوا بدهماء مشاعرهم يحرقون كلّ شيء ويصيحون... بروتس قاتل... بروتس خائن.
الرأي