تجتهد بعض المراكز البحثية والاعلامية في اعداد قوائم مختلفة لأهم الشخصيات المعاصرة التي تؤثر في حياتنا او في اختيار شخصية معتبرة في نهاية كل عام، كما تحتفي الامم - في العادة - باعلامها ورموزها الذين قدموا في مجالاتهم ابداعا ما، او ساهموا في خدمة مجتمعاتهم وعالمهم الانساني.
ومع ان الاحتفاء يأخذ في بلداننا العربية طابعا مختلفا عما تمارسه الامم الاخرى، اذ يأتي غالبا بعد ان ينتقل المبدع الى رحمة الله، او في سياقات سياسية وشخصية معينة، فيما يأخذ شكلا اخر لدى غيرنا، كرمت احدى الدول مؤخرا احد الجزارين لاخلاصه في عمله كما اختير قبل سنوات احد المعلمين المغمورين شخصية العام في بريطانيا.الا ان الاهم من ذلك كله هو موقفنا من الابداع ذاته، ومدى ما نُتيحهُ من مناخات لتشجيعه، والابداع - هنا - لا يقتصر على حقل ادبي او فكري او معرفي وحسب، وانما ثمة حقول انسانية اخرى في مجالات العمل والالتزام بالقيم والتأثير في حياة الناس، مهما كانت وظيفة الانسان او موقعه الاجتماعي.
منذ وقت طويل وانا مشغول بالبحث عن نماذج انسانية في عالمنا العربي والاسلامي يمكن ان تحظى بصفة العالمية، صحيح ان في تجربتنا التاريخية وحضارتنا العديد من هذه النماذج، لكننا للأسف لم نحسن ابرازها وتقديمها والترويج لها كما يجب، لكن ماذا عن تجربتنا المعاصرة: هل يوجد لدينا نموذج انساني كتلك النماذج التي ابرزتها تجربة غيرنا من الامم؟ غاندي مثلا، الام تيريزا ومانديلا ايضا، هل يمكن لعشرات الشخصيات التي تدرج في قوائم الاكثر تأثيرا في محيطها او حتى في العالم ان تحوز صفة النموذج الانساني بكل ما يتطلبه من مواصفات ومؤهلات وكاريزما وتأثير؟
ربما يرى البعض ان انشغال امتنا منذ القرون الاولى بالمواجهات في ميادين الصراع والقتال ورد العدوان دفعها الى انتاج نموذج المقاتل والمجاهد وابرازه ليكون ملهما وقدوة، على حساب تقديم ما لديها من نماذج انسانية فريدة ومدهشة حقا: خذ مثلا نموذج القاضي العادل والفقيه الانسان، والامام الفاتح... لا بل والمجاهد الانسان كما تمثل في اكثر من شخصية اسلامية ابتداء من الخليفة عمر الى صلاح الدين، لكن مشكلتنا - في الغالب - كانت في التقديم والاخراج اكثر منها في الانتاج والحضور، او ان شئت الدقة في اختيارنا لما نريده لأجيالنا من نماذج، وللآخر من صور حقيقية تعكس حضارتنا وثقافتنا بطابعها الانساني الذي يفترض ان يتقدم على ما سواه من الفضائل والسمات.
ثمة من يرى - ايضا - ان البشرية اليوم رغم كل ما حققته من انجازات لم تفلح في انتاج الكثير من النماذج الانسانية المعتبرة، واذا حصل ذلك فان هذه النماذج في الغالب تظل اسيرة لمجتمعاتها المحلية ولا يمتد تأثيرها للعالم، وثمة من يرى ان انحيازنا للابداع في حقوله المختلفة وانشغالنا بتوظيفه سياسيا لم يترك مجالا لنماذجنا الانسانية لكي تعبر عن نفسها، او ذواتها - اصلا - لم ندرج السمات الانسانية كمعايير للاختيار او للاحتفاء، مما ساهم في وجود الكثير من الشخصيات المبدعة والاكثر تأثيرا.. لكنها في الغالب لم تأخذ سمة النموذج الانساني الملهم والمصلح والمغيّر والباعث على السعادة والامل، لا في محيطه ومع اتباع دينه وجنسه فقط وانما مع الناس..كل الناس.
تسأل: لماذا يشعر الانسان في عالمنا وبلداننا بالمرارة والحزن والشقاء؟ والجواب: لأننا افتقدنا - او نكاد - ما نحتاجه من نماذج انسانية كان يمكن ان تلهمنا الصواب، او ان تعلمنا قيم الحياة الفاضلة او تدلنا على طريق الخير والسعادة. (الدستور)