من أكثر ما يتم تداوله بيننا من أسئلة، سؤال بسيط ولكنه مُفَخَّخ، من أين أنت؟ ومن أي منطقة؟ نسأله بحذر شديد لنأخذ مساحة أمان في الغيبة والنميمة، سؤال اعتدنا أن نطرحه على الآخرين أو يطرحه الآخرون علينا في اجتماعاتنا ولقاءاتنا وجلساتنا المختلفة إذا ما صادفنا شخصاً نراه لأول مرة، لا بد من طرح هذا السؤال الموروث في ثقافتنا وعجرفتنا، من أين أنت؟ ببساطة أقول نحن أناس تجيدون كل فنون الحديث والكتابة عن المثل العليا والاخلاق الرفيعة ومن بينها الديمقراطية والمواطنة والمساواة والمشاركة وحقوق الانسان والتعددية واحترام القانون وقبول الآخر واحترام الجوامع...
نجيد ذلك كله ونقيم المؤتمرات وورش العمل بهذا المواضيع وهذه القيم! غير أن النتيجة المفزعة تتوضح حين مطابقة القول بــالفعل والتطبيق، نحن فاشلون بجدارة في هذا المضمار ولا نقبل أبدا بكل ما ذكر أعلاه!
فإذا كان طرح السؤال من أين أنت؟، عند اللقاء للتعارُف فلا بأس وهذا التصرُّف قد يكون بريئًا وطبيعيًّا لبدء حوار مع الغرباء، وعادةً ما ينتهي بهم إلى تكوين علاقات وصداقات جديدة، وأما إن كان هذا السؤال لأخذ احتياطاتنا اللازمة قبل أن نبدأ بالهجوم على هذه الجهة أو تلك بالغيبة والنميمة والهرف وكيل التهم وأكل لحوم الآخرين، عندها يجب علينا مراجعة حساباتنا في قبول الآخر والتعايش معه، وقبلها نراجع حساباتنا في ايماننا! ما بال أناس لا يهنأ لهم بالٌ في حديثهم إلا إذا اطمأنوا وعرفوا السيرة الذاتية كلها للطرف الآخر،
سؤال مُنَمّط ومفخخٌ، كفيل بأن يعيق كل عمليات التفاهم والتقارب والتواصل بين الناس وكفيل بأن يخلق الحواجز بين الطرفين وأحيانًا يخلق عداوات وأحكام مُطلَقة تجاه هذا الطرف أو ذاك، فمثلًا نريد أن نعرف قبل الحديث أن هذا الذي يجلس معنا أردني أم فلسطيني! حتى نتكلم بما نشاء ونخوض بما نشاء ونضمن أن لا نكون موضوعيين أو صادقين، نريد أن نعرف سيرته وسيرة آبائه واجداده قبل أن نبدأ بسرد القصص الملفقة والحكايات البالية، أنا بهذا السؤال كأنني أقول لك أنا أعز منك نفراً وأكثر جاهاً وحظوة.
من أين أنت؟ سؤال يستفزّني في السوق ومحلات البقالة وفي مدارس البنين والبنات حتى من كنت أضنهم يمقتون هذا السؤال يقومون بطرحه على الأولاد في المدارس، أنت من أين؟
سؤال استفزني به الكثير وأنا كذلك بحكم موروثي الثقافي والشعبي الخاص بي أقوم باستفزاز الكثير بهذا السؤال: أنت من أين؟ وكأني ألغي بهذا السؤال وجودك وعطاءك وانتماءك وحبك لهذا الوطن، إنما أعبرُ عن عدم قبولي لك وعدم اعترافي بك وبحقوقك، فمن أكون أنا يا ترى وأنا أعمد الى عدم قبولك في مجتمع واحد؟
من أين أنت؟ سؤال حطم عزائم الكثيرين وكبّل أيديهم عن العطاء فتراجعت عزائمهم وتسلل اليأس والقنوط إلى نفوسهم فخارت قواهم وأحجموا عن المبادرة! في وقت الوطن فيه بحاجة الى كل أبنائه دون استثناء.
من أين أنت؟ سؤال عندما يراد به الباطل فهو سُبّة وفعلة نكراء لا تليق بمن يحمل هموم الوطن وأحلامه، وانما ترتد سُبّة أكبر على من يمتهن الإساءة والنكران والجحود وغمط الناس حقوقهم وجهدهم وعطائهم ....
ما أحوجنا أكثر من أي وقت مضى أن نطمس هذا السؤال من قاموسنا وقبل ذلك من قلوبنا، فيكون العطاء متكاملاً غير مجتزأ ولا مشكوك فيه.